ما يقوله الحبر

للحبر جسد سائل وناعم، لكنّ له صوتاً قاسياً وحادّاً، فحين يهمس لبياض الورق فإنه يصرخ بفجائعية معترضاً ورافضاً ما يحسّه وما يراه، وحين يعبّر الحبر عن رفض، فهذا يعني أن المرفوض مرفوض بالمطلق. هو صوت هامس لكنه صارخ، ولو لم يكن كذلك لما سقطت دول بسلاطينها من فعل قصيدة، أو رأي صريح. الحبر مادّة للتعبير عمّا يجيش في بواطن ملايين الناس، وهو يحمل ملايين الأصوات في انسيابه المستقيم، ولا يمكن لتلك الملايين من الأصوات ألاّ تصل وتؤثّر.

للحبر من الحواس ما لا يحصى، ولكل حاسة تدرّجاتها ومستوياتها لا تحصى أيضاً. يبني أسسه على ما لا يعرف الآخرون بناءه، يستهدي يقينه من عوالم لا يصلها سواه، فينفرد بقول ما يجب أن يقال. هو الجريء في أزمنة صارت فيها الجرأة جريمة، وهو الواضح في عوالم غطّاها الغموض، هو الظاهر حين يقول، والجميع متوارون وراء خشيتهم. وهو الذي قلّما يقول لأمرٍ كُنْ، ولا يكون. وهو الذي لا تستوي عنده الحسنة والسيّئة، فلكل منهما ميزانها، وهو صاحب الموازين التي لا تميل إلاّ على الحقيقة. هو الحامل لمحمولات لا يستطيع حملها سواه، والواصل إلى أعماق لا يصلها سواه، يتفرّد بالمعرفة بحثاً وإيصالاً، معرفة الحقائق من دون زيف.

لا شكّ أن الناس مفطورون على الخوف، خوف مما يفعلون، وخوف مما يخطط من أجلهم الآخرون، ولأنهم يخافون يتستّرون على أفعالهم من يقظة الحبر الذي لا ينام. رقيب يجول في الزمان والمكان، يفضح المستور ويكشف المخبوء، لا لسبب إلاّ ليطمئنّ الخائفون مما يُخطط لهم، ويُتلاعب بهم، أولئك الأجدر بالطمأنينة، حسب ما يراه الحبر.

والحبر عاشق أيضاً، وعذول، يعرف أسرار العشاق ومكنوناتهم، يتسرّب بينهم قصائد ورسائل، ويصير أغاني ومواويل، يختبئ بين ثنايا الورق إلى أن يأتي زمن آخر، فيصير ذكريات غالية، لا تقدر بثمن. ومن الجسد الحبري تُكتب العهود، وتُرسم القلوب المخترَقة بأسهم الحب، والوجوه المملوءة بالعشق، والحالمة بطيران جميل على آفاق أجمل.

ما من شيء جادت به المعرفة البشرية كالحبر، وما من شيء أسهم في التطوّر والرقيّ كما أسهم الحبر، فمن أين لنا لولاه بالاطّلاع على التراث البشري؟ ومن سواه قادر على حفظ الموروث من الضياع؟ من أين للبشر لولاه أن تنتظم أمورهم؟ وكيف لنا أن نتخيّل العلاقات بين البشر من دون حبر؟ وهل نستطيع معرفة من اخترع الحبر، وما طريقة صنعه لولا الحبر ذاته؟

ولكي لا نطيل في مدح الحبر، لا بدّ من الاعتراف بأنه واحد من أوجه المعرفة العلمية، والتي يقولون عنها إنها سلاح ذو حدّين، فالحبر أيضاً كذلك. وكما نقل لنا الحكايات والأساطير، نقل أيضاً شرور العالم ومساوئه. نقل إلينا مسرحيات سعد الله ونوس، ونقل مأساة المملوك جابر حين غفل عمّا ينتظر رأسه الحالم بالثروة والجاه. نقل مسرحيات أبو خليل القباني، ونقل أيضاً الوشاية والافتراء للسلطان العثماني، فأُحرق المسرح، ولوحق صاحبه. نقل لنا روائع الأدب من شعر ونثر، ونقل نهايات مفجعة لبعض من أصحاب تلك الروائع. ويكفينا في هذا المجال حين نتذكّر المنافع التي أتى بها الحبر، من محاسبة الفاسدين والمفسدين، أن نتذكّر أيضاً كم من الأبرياء والمظلومين في سجون هذا العالم كانت نهاياتهم المأسوية بسبب الحبر ذاته.

العدد 1105 - 01/5/2024