المحتوى الفكري للتنظيم في الحزب ومسألة الوحدة والتناقض فيه

 إنّ التنظيم في أي حزب هو نتاج الواقع الاجتماعي في حركته المستمرة دائماً، وأشكاله تعكس تطور هذا الواقع، ومرتبطة به ارتباطاً عضوياً ولا يمكن أن تنفصل عنه، ولها بالتالي طابع تاريخي محدد، وتعكس مرحلة من مراحل التطور عموماً.

وبالطبع فإن أيّ شكل من أشكال التنظيم الناتج عن واقع اجتماعي انتهى لا يمكن أن يكون صالحاً لأي واقع اجتماعي جديد ناشئ.

إنّ الجمود في أشكال تنظيمية محددة، دون الأخذ بالحسبان حركة الواقع الاجتماعي وضرورة مواكبتها، قد وضع الكثير من الأحزاب الثورية خارج إطار المجرى التاريخي، وكان أحد الأسباب الرئيسية في دمارها، ورفض الجماهير للانضواء تحت لوائها.
وإنّ أي تجمع منظم ليس ثابتاً، وهو في حركة وتطور دائمين، وما كان مقبولاً له في مرحلة محددة، يصبح بالنسبة لأخرى غير مقبولاً وغير كافياً لتلبية متطلباته ومتطلبات المجتمع، وهذا ما يفسر أن كثيراً من الأحزاب التي بنت أشكالها التنظيمية على قواعد ثابتة، كانت تشكل مصدراً نابذاً باستمرار لكوادرها. لم تستطع أن تواكب تطور هذه الكوادر.

يؤدي اعتماد المنهج الجدلي في المسألة التنظيمية بالضرورة إلى تلمس حركة الواقع، وإحداث تغيرات في البنى التنظيمية التي تستطيع مواكبة هذه الحركة..

إنّ التّحدث عن الحركة والتطور من جهة، والوقوف ضدهما عملياً من جهة أخرى، يقود أولاً إلى الازدواجية في الفكر والتناقض بين النظرية والممارسة، وثانياً إلى الوقوع في مصيدة الفكر المثالي ومنهجه الميتافيزيكي عملياً.

مسألة الوحدة والتناقض في الحزب

لقد ساد الأحزاب الثورية في الكثير من البلدان شعار الوحدة أو الوحدة الصوانية، وكانت تعقد المؤتمرات تحت هذه الشعارات، ورغم ذلك فإنّ الوحدة في هذه الأحزاب كانت هشّةً، ولم تصمد أمام التطور.

 لقد أصبحت الانقسامات هي السمة السائدة في هذه الأحزاب، وعوضاً عن معالجة هذه الظاهرة بصورة موضوعية، كانت تكال الاتّهامات المختلفة بخصوص الخارجين عن (الشرعية).

لا يمكن تفسير هذه الظاهرة، دون النّظر إلى الأحزاب كنتاجٍ اجتماعي تاريخي، تتحكم في حركته قوانين التطور الاجتماعي، التي يشكل قانون التناقض لبنتها الأساسية ومحتواها.

إنّ التناقض هو قانون الحزب الرئيسي، قانون حركته وتطوره المستمرين، أما الوحدة فهي الإطار التي يتعايش فيها هذا التناقض، التناقض هو الحركة والوحدة، هي السكون النسبي.

إنّ الكثير من الأحزاب الثورية وحركات التحرر تعاملت مع هذه المسألة بمنأىً عن تطور الواقع، نظرت إلى الحزب كوحدة متجانسة، ويجب أن تبقى هي المسيطرة دائماً، وأبطلت بصورة إرادوية فعل قانون التناقض، وقد نتج عن ذلك آثاراً كارثية بالنسبة لهذه الأحزاب والحركات.

أولاً: جمودها، ولأنّ قانون التناقض لا يمكن إلغاؤه بقرارات، فكان يجد منفذاً له في الانقسامات والتشرذم والهروب والتكتلات.

ثانياً: إنّ محاولة إلغاء فعل قانون التناقض في التنظيم، أدّت بصورة مستمرة إلى تركيبات تنظيمية أوامرية متخلفة، وإلى غياب أية ديمقراطية داخلية في هذه الأحزاب، رغم قيامها بإجراء مؤتمرات شكلية مسيطر عليها مسبقاً.

ثالثاً: إنّ قانون التناقض هو  الذي يجعل الحزب من خلال بُناه، قادراً على ملاقاة كل جديد، والارتفاع إلى مستواه، وما محاولة إلغاء فعل هذا القانون، إلا رفضاً لكل ما هو جديد.

رابعاً: إن إبطال فعل قانون التناقض في هذه الأحزاب، أدى إلى رفض أية معارضة على نطاقها، وأدى إلى أن لا تقدم نفسها أمام المجتمع كنموذج ديمقراطي، يمكن في حال وصولها (وقد وصلت في عدد من البلدان) أن تقدم الديمقراطية للجماهير الشعبية.

لقد فقدت شعاراته المنادية بالديمقراطية مصداقيتها تماماً.

خامساً: إنّ إبطال فعل قانون التناقض في الحزب أتاح للزعماء أن يثبتوا سلطاتهم الشخصية، وأن يمسكوا مفاتيح الحزب، التنظيمية، وأن يحلّوا العامل الذاتي مكان العامل الموضوعي، فيما يتعلق بمسائل الكادر والعلاقات بين الهيئات، وقد فتح المجال ذلك للتخلص من كل كادر لا يحوز على إعجاب المسؤول ولتصفيات واسعة، كحل للخلافات التي كانت تنشأ داخل هذه الأحزاب.
ولقد أدى أيضاً إلى تخليد القادة الحزبيين الذين لا يخطؤون ويملكون الحكمة المطلقة، وأدى أيضاً إلى غياب المبادرات، وازدواجية لدى أعضاء هذه الأحزاب وخلق تراتبية بيروقراطية قاتلة ليس على نطاقها، وإنما على نطاق المجتمع في حال كانت هذه الأحزاب على رأس السلطة، وأدى إلى تحول هذه الأحزاب من أحزاب جماهيرية إلى أحزاب سلطوية تعشعش في صفوفها الانتهازية والوصولية،
إنها تفقد طابعها الجماهيري الحي، وتجعل منها ممثلة لمصالح نخبة من البيروقراطية وتخلق مناخاً ملائماً لكل من يطمح إلى الصعود ولو بغير حق، عبر التزلف والمداهنة.

سادساً: إن إبطال فعل قانون التناقض في هذه الأحزاب أدى إلى انتفاء الانتماء الحر والواعي لها، إن العضو في هذه الأحزاب الذي كان يتطور ويفكر بصورة مستقلة، كان يشعر بتنامي غربته عنها بسبب عدم قدرته التعبير عن أفكاره خوفاً من الاضطهاد، ولذلك أخذت التجمعات التكتلية تتكاثر، وكان هذا الأمر يعبر عن التفسخ الذي أخذت تعانيه، وعن فقدانها لدورها الحي والخلاق والتاريخي تجاه شعوبها.

سابعاً: لقد سادت في أوساط الأحزاب الماركسية لفترة طويلة من الزمن مقولة يكمن محتواها في أنها هي التي تبني الاشتراكية، بيد أن ذلك يجافي الحقيقة، فالاشتراكية تبنيها الطبقات التي لها مصلحة بها، ويتلخص دور الحزب من خلال تلمسه لعملية التطور في تعبئة الجماهير باتجاه هذا الهدف.

إن إبطال فعل قانون التناقض، قد أدى إلى تعامل هذه الأحزاب التي استملت السلطة مع المجتمع تعاملاً أوامرياً.

لقد غُيبت الطبقة العاملة، وكان تغربها كبيراً، فالحزب هو وحده الذي يعرف مصلحة الطبقة العاملة وينوب عنها، أما المجالس المنتخبة فقد تحولت إلى مجالس شكلية تابعة للسلطة لامعنى لها، وفقدت محتواها الحقيقي، وهو الدفاع عن مصالح الفئات التي ادعت أنها تمثلها، وإلى هيئات بيروقراطية همها الأساسي تأمين مصالح أعضائها، والتصفيق للحزب ولقراراته الحكيمة.

وأخيراً ودون أن تتحول هذه الأحزاب إلى أحزاب ديمقراطية تتحقق في داخلها موضوعة الانتماء الحر، والشعور بالحرية الكاملة في إبداء الرأي والنقاش والمشاركة في القرارات والمساهمة في كل النشاطات والتنوع والاختلاف، دون كل ذلك، فإن المستقبل الذي ينتظرها لن يكون مأمولاً.

 

العدد 1104 - 24/4/2024