في مديح البرد

هو أساس كل علة، و(سوى البرد خلف ظهرنا برد)، من أين سنأتي ببعض دفء يرمم  أرواحنا المتعبة في هذه البرية الممتدة من الموت والدمار والنزوح الجماعي والفردي؟!

للبلاد النائمة على أمل، والمصبحة على خيبة جديدة، أقول: تلحفي بدماء الشهداء فإنهم يحومون في سمائك المستباحة للنيران الصديقة بل الشقيقة، يتوسلون للآلهة أن تحيط صغارهم بحنانها إن بقي ثمة مكان لحنان.

هذه النيران العمياء لا تدفىء أحداً حتى مُشعِلها، يحاصره برده فيحرق الأرض ومن عليها لعله يحظى بدفء لكن هيهات له الدفء.

رائحة الوقود المحروق المنبعثة من فوهات وحوش الفولاذ الحائمة لا تبعث سوى على الغثيان..

***

(ليس للسوري إلا الريح)، يناشدها أن تحمل إليه بشائر صباح دافئ فتأبى إلا أن تسعف عطشه بمزيد من الموت والخراب.

سكان المدارس المهجورة والحدائق الكابية يرمقون المدى المفتوح على دخان ويحلمون بالدفء، لا ينتظرون أحداً يمسد جراحهم سوى الله.

لعل هذا الشتاء يكون رؤوفاً، يقول الرجل العاجز عن تأمين مازوت أو كمشة حطب ليدفئ أسرته الباحثة عن مأوى.

المازوت حلم الأسرة السورية، كما الغاز والخبز أحياناً..لم يعد مُهمّاً الثمن الذي سيدفعه إن بقي في جيبه المنزوف بضعة قروش بيض ادخرها لهذه الأيام الحالكة.

***

السادة القابعون في مكاتبهم الوثيرة الدافئة وبيوتهم العامرة بأموال النهب العام ينصحون المواطن السوري بتغيير عاداته الاستهلاكية المقيتة.

لم يبق منها سوى الماء ربما، هل تريدونه أن يصوم الدهر ليوفر لكم طاقة للكذب؟

***

الشاعر المهاجر رشيد أيوب شاهد الثلج مرة من نافذته فثارت أشجانه بأعذب الكلام ومما قاله:

يا ثلجُ قد ذكَّرتَني الموقدْ

أيام كنا حولَهُ ننشدْ

نعدو لديهِ كأنَّهُ المسجدْ

كأننا النسَّاكُ في الزهدِ

يا رازقَ النعّاب في العشِّ

يا نفسُ نادي صاحبَ العرشِ

وتدرّعي بالصبرِ ثم امشي

لا بدَّ بعدَ الجزرِ من مدِّ

قصيدة الشاعر دافئة، تستحضر ذكريات الثلج في بلده الجميل لبنان، وترفل بالجميل والآسر من البيان.

نحن المهاجرون في بلادنا، بلاد الشمس، لم تعد تدفئنا القصائد وقصص الحب وحكايا الشتاء التي كانت الجدات ترويها على موقد الحطب، لم يبق منها سوى صوتٍ أجش لمغن بائس يقول: راحت تقمقش حطب.. وأترك لحصافة القارئ الترجمة العربية ل(تقمقش)..

***

العاشق المنسي بين كتبه وأوراقه البيضاء يتأمل برد البلاد، يتذكر يدي حبيبته، اليدين الباردتين دائماً، فيكتب إليها:

يداكِ باردتان

يا إلهي

ما أدفأهما!

***

الفلاح الذي هجر محراثه الخشبي منذ عقود، يتأمل في الجرار المركون جانباً بلا دماء تشعل نبض المحرك الأصم، يعود إلى المحراث الغارق في الصدأ والنسيان، يمسح عنه تاريخ بلاد كانت على مشارف الحياة، ويستعير من أصحاب المروءة دابتين لجر المحراث ثم يمضي إلى أرضه التي تستغيث، ويغني:

بلادي بلادي بلادي

لك حبي وفؤادي

***

الموظف، هذا الكائن المحسود هذه الأيام، لديه على الأقل معاش ضئيل، يتضاءل أكثر فأكثر، لكنه يعينه في تأمين خبز العائلة على الأقل، يمضي إلى عمله إن بقي مكان عمل آمن، بتثاقل وحنق، يقطع الحواجز المتناسلة كل يوم وهو يحمل الهوية بيد وروحه بيد أخرى بانتظار رصاصة أو متفجرة ترفعها إلى الأعالي حيث الراحة الأبدية، ليترك (الشقا على من بقى)، وما إن يصل إلى عمله حتى يبدأ المخبر المصون عمله في تلقف كل كلمة تصدر عنه احتجاجاً أو تذمراً أو حتى حوقلة..

***

المرأة الراضية بقدرها التاريخي في البقاء خادمة مطيعة صامتة راضية، تهيئ المنزل لدفء مفترض لا يلبث أن يتبخر مع أول عائد من العمل أو المدرسة.. فتفرد اللحف والبطانيات لمن يرغب أن يمارس التدفئة الذاتية.

عليها أن تهيئ الطبخة ولو على لهب شمعة، والشمعة قد صارت معتزة بنفسها، نافخة صدرها: لا سراج بعدي.

***

في هذا الشتاء الثاني من عمر أزمتنا، كارثتنا الوطنية، يستحق السوري الأعزل، إلا من حلمه بوطن نظيف آمن، لقب بطل من هذا الزمان، يستحق أن يسجل له التاريخ قصة صمود أسطوري أمام غول الحرب العمياء المجنونة المتربصة به، بأحلامه، ببيته، بعائلته.. يستحق الحرية.

العدد 1107 - 22/5/2024