موسم هجرة رجال الأعمال السوريين

انتظر رجال الأعمال فترة زمنية ليست قصيرة على الإطلاق، ليبدؤوا موسم هجرتهم ومغادرتهم سورية، فمنذ بدء الأزمة في سورية قبل 18 شهراً، وثمة تخوف من مغادرة رجال الأعمال البلاد، ولاسيما الصناعيون منهم، وأن تكون وجهتهم بعض الدول المجاورة، التي توفر لهم بيئة أعمال مغرية وآمنة، وجدوى اقتصادية معقولة من تأسيس مشروعاتهم في تلك البلدان. هذا التخوف القديم، أصبح حقيقة الآن، وغدا واقعاً لايمكن نكرانه، والهروب من تداعياته ومخاطره على الاقتصاد الوطني، وآثاره السلبية على المدى البعيد.

وليس وارداً طرح تساؤل اليوم: لماذا غادر هؤلاء البلاد؟ ولا يمكن الطعن بتوجههم؟ أو نكران خطورة هذه الخطوة التي قاموا بها؟ فما يجري في سورية، وتصاعد وتيرة العنف، والاتكاء على الحل العسكري والأمني سبيلاً وحيداً لإنهاء هذا العنف، دفع رجال أعمال كثر إلى المغادرة، وشجعهم على نقل استثماراتهم إلى بلدان تحظى في هذه الفترة بصفة الأمن، وتوفر الأمان للقادمين إليها. فالرأسمال الجبان الذي كنا نتحدث عنه سابقاً، تظهر اليوم إحدى صوره وتجلياته، بمغادرة رجال الاعمال، ويبدد كل الدعوات التي كانت تؤكد أن البلاد الآمنة لن تدفع مستثمراً إلى المغادرة، ليفاجأ الجميع بأن البلاد الآمنة لم تعد كذلك، وأن المستثمرين العرب والأجانب الذين لم يعد يغريهم مناخ الاستثمار المستند إلى تصنيف سورية المتقدم بالأمن والأمان عالمياً، لم يحزموا مشاريعهم مع حقائبهم، بل اكتفوا كالعادة بإغلاق أبواب المنشآت، وربما بعضهم لم يترك حارساً يقف أمام ابوابها الرئيسة، لأن كل الجهات المحيطة بها باتت أبواباً رئيسة. وأكثر من ذلك أصيب بالعدوى أيضاً، رجال أعمال سوريين، وصارت وجهتهم بيروت ودبي والقاهرة وتركيا، وغيرها من البلاد والعواصم التي فتحت وزارات أو هيئات الاستثمار لديها أبوابها أمام القادمين الجدد، واستقبلتهم وفرشت لهم السجادة الحمراء، كما يستحق مالك المال، لا كما يعاني اللاجئون الفقراء الهاربون رغماً عنهم من العنف والقتل والدمار، والذين فرضت عليهم تلك الدول والعواصم الإقامة الجبرية في مخيمات لا تليق بكرامة الانسان، ولا تليق أبداً ببشر يبحثون عن حماية لهم من موت يطاردهم، ونسيت تلك الدول هؤلاء وضاقت ذرعاً بهم، وفتحت ذراعيها للرأسمال القادم إليها رغماً عنه أيضاً.

 لاتوجد منطقة شهدت أعمال عنف مسلح في سورية، وبقيت عجلة الإنتاج مستمرة فيها، لاسيما بالنسبة للقطاع الخاص الذي بات حمله ثقيلاً، والمخاطر المحدقة به متزايدة. وكان لافتاً، ما تحدث عنه رئيس اتحاد غرف الصناعة فارس الشهابي حول تقصير الحكومة في تأمين الحماية للمنشآت الصناعية. هذا التقصير دفع بالعديد من الصناعيين للعمل في الخارج، وثمة رجال أعمال كثر صناعيون وتجار، اختاروا البقاء في الخارج ريثما يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود، أو يظهر الدخان الأبيض. ورغم محاولة الشهابي التقليل من خطورة هذه الخطوة، وأخذها بالسياق الطبيعي، إلا أن الظاهرة تستحق الطرح مجدداً، والبحث في عمق دلالتها ومخاطرها، لأن وجود منشآت صناعية تعمل في مختلف الصنوف، يحقق الكثير من الأهداف التي تخفف من وطأة هذه الأزمة، وتقلل من مخاطر المشكلات الناجمة عن إغلاقها، وخاصة تزايد عدد العاطلين عن العمل، وظهور مشكلات جديدة تتعلق ببحث فئة جديدة من العمالة عن عمل يقيها شظف العيش وشر السؤال. إغلاق منشأة إنتاجية لا يخص صاحبها فقط، بل لابد من إدراك مدى الضرر الذي يلحقه هذا الإغلاق بالاقتصاد الوطني، وعلى هذا يمكن القياس، فالعمال سيخسرون بالدرجة الأولى، والمستفيدون من عمال بشكل غير مباشر يلحقهم الأذى، ومن ثم يأتي دور صاحب المنشأة أو رب العمل الذي يمكن القول إنه سيخسر بعض الأرباح، لكنه لن يخسر أكثر من هذا.

كانت سورية عبر عدد من مؤسساتها تبحث عن الطرق الأنجع لإقناع المغتربين السوريين بالعودة إلى وطنهم الأم، والاستثمار فيه، سواء أولئك الذين تشكلت ثرواتهم في الخارج، أم الذين خرجوا سابقاً بأموالهم وثرواتهم. وتقدر قيمة هذه الأموال حسب مصادر رسمية قبل سبعة أعوام بنحو 120 مليار دولار، وكان ثمة رهان على عودة جزء من هذه الثروة وأصحابها لتُستثمر في موطن مالكيها، لكن السيف سبق العذل، وبقي المال بلا موطن محدد سوى المكان الذي يقدم له الحماية والأمان إلى جانب الجدوى الاقتصادية، ولحظتئذ يصبح هذا المكان بالنسبة للمال ومالكه موطناً لهما بامتياز.

بعض رجال الأعمال هربوا، لأنهم لايريدون رؤية ما يحدث، وبعضهم دفعته الظروف رغماً عنه ليحزم حقيبته الاستثمارية ويغادر، وفي كلا الحالتين فعل المغادرة حدث، والخسارة وقعت على الاقتصاد الذي لاشك أنه كان سبباً رئيسياً لما يحدث في سورية بالبداية، والآن يدفع هذا الاقتصاد الفاتورة بأشكال مختلفة، أقلها على الإطلاق هجرة المستثمرين ورجال الأعمال، وتجميد أعمالهم في سورية.

العدد 1105 - 01/5/2024