كانت الشجرة بذرة…

لكل شيء في الحياة بداية..

والبدايات تختلف باختلاف أصحابها، من أشياء وأشخاص، فمنهم من يبدأ ناعماً كعشب طري، ومنهم من يبدأ لطيفاً كنور الصباح، ومنهم كعاصفة أو زلزال.

بيد أن البدايات، مهما بلغت من القوة أو القسوة، لا بد أن تكون قد مرت قبل ذلك بمراحل من النمو البطيء، اللين والرقيق، النمو الذي يجعلها قوية وكبيرة في مواجهة ظروف الطبيعة، وأمزجة الناس، حتى أشواك الورود تكون في بداياتها طرية كورقة خضراء، ورؤوسها غير مؤذية أبداً، والعواصف قبل أن تهب تجمع في قلبها الغبار الناعم والمطر الرقيق، والريح الخفيفة، حتى إذا قررت الهبوب أخذت من غبارها ومطرها ورياحها درعاً فولاذياً يضرب بطريقة كل شيء، ولا يهاب من أي شيء.

والأنياب والأظافر والمخالب يسهل قلعها قبل أن تكبر، لكن حين تستطيل وتمتد قد يصعب كسرها، فهي تقسو وتتصلب مع مرور الوقت فيها وعليها، وبذلك تكون قد أخذت من الزمن فرصة ذهبية كي تكبر وتواجه، ومن صبرها على نموها فرصة أخرى لكي تصبح أقوى.

إن الوقت والصبر والانتظار تساعد كل حي على النمو، فلا يمكن أبداً لحبة القمح أن تصير سنبلة في اليوم التالي لدفنها. ولا يجوز أن تقسو أشواك الورود بين ليلة وأخرى، ولا جذع شجرة السندباد يتصلب ويصبح قاسياً بعد أسبوع من زراعة الشجرة، ولا الأظافر والمخالب والأنياب تصبح جاهزة للقطع والنبش والتمزيق إلا بعد مرور أشهر على ولادتها في اللحم وبين العظام.

إن الإنسان دون صبر وانتظار على ما يحبّ أو يكره، ليس سوى وردة بلا عطر، وغيمة بلا مطر وعين بلا بصيرة، ودخان بلا نار، ونار من غير نور.

ولكي يقسو ويكبر ويحقق آماله وأهدافه عليه أن يزرع بذور الصبر في دمه، وفوق مسامات جلده، وداخل شرايين قلبه.

تصبر الأشجار على أوجاع كثيرة تصيبها قبل أن تكبر وتعطي أزهاراً وثماراً، فهي تمرّ وتواجه رياح الشتاء وثلوجه، ومطر السماء وصواعقها، وحرارة الشمس ولهيبها.

إنما الصبر وقوة الاحتمال لا ينبتان في حديقة كل شخص. فقليلو الصبر كثر، والأكثر منهم أولئك الذين تعجز أرواحهم عن تحمل مصاعب الحياة وطبائع البشر.

تقسو الأحياء والأشياء بالصبر عليها، وتكبر وتصبح أقوى كلما كانت شدة احتمالها أكثر، ولا يمكنها المواجهة إلا إذا نمت في أحشائها إرادة لا تلين، وعزيمة لا تنكسر.

ألا نرى كيف تصبر النسور على فراخها ريثما تصير نسوراً مثلها؟ ونرى الغيوم كيف تنتظر مرور البرق فيها حتى تشتعل وتمطر؟ وكيف أن البراكين والأعاصير لا تثور وتضرب لو لم يكن صبرها وانتظارها عظيمين، واحتمالها أعظم في تحملها للجثث المتحركة فوق جلدها وبشرتها؟

إن النمو الهادئ والرقيق، والصبر وقوة الاحتمال عناصر لا بد من وجودها في أديم وعظام كل حي، فهي التي تمنح جذوع الأشجار الصلابة والقسوة، وهي التي جعلت من قطرات المطر ساقية، ومن الساقية نهراً، ومن النهر بحراً، ومن حبة القمح قبيلة من السنابل.

لكن البعض، قد يثور وينزعج ويتذمر إذا خطر ببالك أن تذكِّره بأنه كان في يوم ما قبل أن يصير شجرة، حبة صغيرة جافة دفنت في التراب، ومن ثم ساعدتها بقية الأشجار التي حولها على أن تنمو وتكبر، وقد تكون تلك الأشجار الكبيرة قد دافعت عن أوراقها الطرية ووقفت في وجه الريح والحشرات والأفاعي والعقارب السامة، ريثما تكبر تلك الحبة وتأخذ فرصتها في الحياة.

العدد 1104 - 24/4/2024