الانتخابات الرئاسية الأمريكية وديناميكية «أهون الشرّين»

يصوّر دعاة ديناميكية (أهون الشرين) التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأنه قضية حياة أو موت للجماهير. ويطلبون من الناس أن يتركوا كل شيء ويلقوا بأنفسهم في المعركة لوقف لائحة مرشحي اليمين الجمهوري المؤلفة من ميت رومني وبول ريان.

لا شك أن فريق رومني – ريان رجعي كلياً- ولكن التركيز على ذلك وحده يحجب الصورة الأوسع، وهي أن الانتخابات الرئاسية هي في العمق صراع بين زمر مختلفة في الطبقة الحاكمة لوضع أيديها على الدولة الرأسمالية التي تبلغ ميزانيتها ثلاثة تريليونات دولار، والفوز بالحق في توزيع الغنائم على شركاتها وأصدقائها الرأسماليين.

وفي حين توجد فوارق سياسية مهمة على السطح بين الحزبين، إلا أنه لا توجد هوة بين الحزبين في الجوهر. كلاهما يفرض الحكم الرأسمالي، وعبودية الأجر والاستغلال والقمع، ويشجع الغزو الإمبريالي والتدخل في الخارج.

وقد كشف كارل ماركس بشكل رائع جوهر الديمقراطية الرأسمالية عندما قال في تحليله لتجربة كومونة باريس، إن المضطهَدين يسمح لهم كل بضعة أعوام بتقرير أي ممثلين محددين للطبقة المضطهِدة سيمثلونهم في الحكومة ويقمعونهم.

ولكن يبدو الحزبان مختلفين اجتماعياً واقتصادياً، إن مقارنة المؤتمر الوطني الجمهوري، والمؤتمر الوطني الديمقراطي، تجعل الحزبين يبدوان مختلفين كالليل والنهار. كان المؤتمر الوطني الجمهوري مؤلفاً بنسبة 9,99 في المئة من البيض، وتراوح المندوبون بين ناجحين وأغنياء، وكان مليئاً برجال الأعمال ونماذج من غرفة التجارة. وقدم الجمهوريون برنامجاً رجعياً، واعدين باقتطاعات في البرامج والخدمات للجماهير ومكافأة الأغنياء. واتسم المؤتمر بمزيد من التحول نحو اليمين.

ولتبيان ذلك نذكر أن رجعياً مثل جورج دبليو بوش اضطر إلى التنافس في عام 2000 ك (محافظ رحيم)، وتملق المهاجرين والجماعات الفقيرة، ووعد بدعم أنظمتها المدرسية الضعيفة، إلى جانب خُدَعٍ أخرى.

ولكن المرشحَيْن الحاليين يخوضان المعركة الانتخابية ببرنامج مضاد للإجهاض متطرف، إضافة إلى اقتطاعات تهدد الميزانية وسياسات صريحة معادية للمهاجرين والعمال. لا بل هاجم ريان في خطابه بشدة إدارة أوباما متهماً إياها بأنها مكونة من (مخططين مركزيين)، مثيراً صور الاشتراكية والاتحاد السوفييتي. ليت هذه الاتهامات كانت حقيقية!

من جهة أخرى، شاركت في مؤتمر الحزب الديمقراطي أعداد كبيرة من المندوبين السود اللاتينيين والنقابيين، إلى جانب شخصيات عامة ومشاهير ليبراليين. وقدَّم المتحدثون، ومن ضمنهم أشخاص من هذه الجماعات، بيانات لصالح حق المرأة بالخيار وحقوق المهاجرين وضرائب على أصحاب الملايين والمليارات، وما شابه ذلك. إن التناقض مع المؤتمر الوطني الجمهورية واضح إذن.

 

الفوارق والتشابه

ولكن هذا التناقض خادع. لنأخذ بالحسبان أن الرئيس أوباما تعهد في خطابه بتنفيذ خطة وول ستريت للتقشف بشأن اقتطاع أربعة تريليونات دولار من الميزانية تشمل العناية الصحية والمساعدة الصحية والتأمينات الاجتماعية. وإذا لم تكن هذه الاقتطاعات قاسية تماماً كتلك التي يدعو إليها الجمهوريون، فإنها تظل مع ذلك قاسية وهجوماً على الجماهير.

أدت الإعلانات والتهديدات الرجعية الصريحة من جانب الجمهوريين إلى فرار المذعورين إلى معسكر الحزب الديمقراطي. ولكن هذا الحزب لا يقل عن الحزب الجمهوري خضوعاً لوول ستريت والاحتكارات العملاقة والرأسماليين.

الفارق بين الحزبين هو أن القاعدة الجمهورية مكونة من أصحاب أعمال وأرباب عمل فعليين، أما قاعدة الديمقراطيين فمكونة من الجماهير التقدمية وليبراليي الطبقة الوسطى.

ولكن الحزبين سينفذان في النهاية أوامر أرباب العمل. وفيما يلي مثال على ذلك: يندد بعض اليساريين في الكثير من الأحيان برونالد ريغان، قائلين إنه استهل الانعطاف الحاد إلى اليمين في السياسة الرأسمالية، وينسون أن جيمي كارتر من بدأ عملية إلغاء التنظيم في النقل وميادين أخرى استُخدمت لتحطيم النقابات. وكان كارتر من خطط العملية التي نفذها ريغان، والتي حطمت المنظمة المهنية لمراقبي الحركة الجوية. كانت تلك بداية الحملة ضد العمال. وكان كارتر من بدأ التعزيز العسكري الكبير الذي واصله ريغان.

لم يفعل كارتر كل ذلك لأن الأفكار أتته فجأة، بل لأنها عبرت عن الانعطاف اليميني في الطبقة الحاكمة. وبالطريقة نفسها تعبِّر برامج التقشف لرومني وأوباما عن الإجماع في وول ستريت اليوم، يشعر المصرفيون وأرباب العمل بوطأة الأزمة الاقتصادية العالمية، ويريدون تحميلها للجماهير.

سيطر أرباب العمل في الولايات المتحدة على الأحزاب السياسية والمشرعين منذ تأسيس الجمهورية. فقد كان جورج واشنطن الرجل الأغنى وأكبر مالك عبيد في الولايات المتحدة في ذلك الوقت. وفي القرن التاسع عشر كان المشرّعون والرؤساء والقضاة يُشترون ويُباعون من قبل بارونات السكة الحديدية وبارونات الماشية وشركات التعدين الذين مُنحوا مساحات شاسعة من الأرض المسروقة من السكان الأصليين. وجرى ذلك كله من خلال الفساد والرشوة.

وتشير جميع الدراسات عن العلاقة بين النقود والسياسة والمصالح الرأسمالية، منذ عشرينيات القرن العشرين المزدهرة، إلى تزايد الاندماج في القمة بين الآلة السياسية والبيزنس الكبير. وإذا كان هناك من تعديل على ذلك على الإطلاق فإنه حصل خلال إدارة فرانكلين روزفلت عندما دفع أقساماً من الطبقة الحاكمة إلى التراجع، ليتمكن من تجنب نهوض ثوري يختمر خلال الكساد الأعظم في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.

تجري الانتخابات الرئاسية خلال الموجة الأخيرة من التراجع الأمريكي الذي ظهر بجلاء عقب الأزمة المالية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة أولاً، ثم بقية دول العالم في عام ،2008 وهو ما دعا بول كيندي إلى أن يعاود طرح مقولته التي كان قد أطلقها منذ عقدين في كتابه (صعود وانهيار القوى الكبرى) عن التوسع المفرط المصحوب بالإنفاق العسكري المهول والمتمثل في النفقات المهولة التي صُرفت في حربَيْ العراق وأفغانستان، سعياً وراء الانتقام والاستحواذ على منابع النفط، من دون حساب لعواقب التدخل والاحتلال الأمريكي لبلدان أجنبية. وهو الأمر الذي كلف الخزانة الأمريكية (وبحسب أرقام محافظة) ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار، جاءت على حساب الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم والبحث العلمي والحد من الفقر (يوجد في الولايات المتحدة نحو 60 مليوناً يعيشون تحت خط الفقر). (روبرت كيوهان، مبني للمجهول: مآلات القيادة الأمريكية للنظام الدولي، مجلة المستقبل العربي، تشرين الأول ،2012 ص 45).

العدد 1104 - 24/4/2024