كيمياء الخوف

هل نخاف؟ ولماذا؟

سؤال يُطرح بكثرة في هذه الآونة، سؤال مشروع، لكن السؤال الأكثر مشروعية هو لماذا لا نخاف؟ وهل نحن كائنات محصنة ضد الخوف؟ وهل هناك ما يطمئن؟ أسئلة كثيرة تُطرح أيضاً، وغالباً ما نجيب عنها دون تفكير، وتكون أجوبتنا بنفي الخوف بدلاً من تأكيده.

أجل نحن نخاف، والخوف من صفات الكائن العاقل، وهو بهذا المعنى مغاير تماماً لمعنى الجبن. نحن نخاف لكننا لسنا جبناء، نخاف لأننا عاقلون، ولأننا في خطر، ولأننا مواطنون صالحون وصادقون، غيورون على وطننا في زمن الرخاء، فكيف يكون الأمر في زمن الشدّة؟

نخاف على وطننا، وعلى أطفالنا ومحبينا، نخاف على أنفسنا أيضاً، ولأننا بشر تحق لنا الحياة بعزّة وكرامة لا نخشى الموت، فهو حياة أخرى، أجلّ وأنقى، وهو استمرار لنهر الأبديّة المتدفّق دون توقّف. نخاف على تراب جُبلنا منه، على نظافته ونقائه من مصائب وويلات عالم بلغ تلوّثه حدّاً يثير القلق والخوف.

من الذي لا يخاف إذاً؟ إنهم الجبابرة والطغاة، أولئك الذين ماتت ضمائرهم، وتبلّدت مشاعرهم، وترمّدت شعلة الحياة على وجوههم. المجرم لا يخاف، والذابح باسم ربّ مشكوك في ربوبيته لا يخاف، قاتل الأطفال والأبرياء، ومغتصب الأرض والعرض لا يخاف، لأنه تنازل طوعاً عن إنسانيته، عن حقه في الحياة بعد أن استبدل به دزّينة حوريات وُعد بها، بشّره بها شيوخ عباقرة، يضيفون دائماً على ثوابت الطبيعة بصماتهم الإجرامية.

عاشق الحياة بكل معانيها، بكل ما تحمل من حب وخير وسلام يخاف. وكارهها بحمولاتها هذه لا يخاف. الفادي لوطنه، لترابه ولملاعب الطفولة والمرْبى يخاف، والناسي المتجاهل لهذه الأشياء الأليفة لا يخاف. المتيقّن من دينه ودنياه، من عبادته لإله عظيم خيّر يخاف، والمتشكك بدينه ودنياه، بمعاني الخير والشرّ سرعان ما تميل كفّة الشرّ لديه فلا يخاف، يتحوّل بكلمة أو إشارة إلى وحش على هيئة إنسان، كائن لا يخاف.

هي كيمياء الخوف، تتغلغل في القلوب والأعصاب لتصبغ صاحبها بخوف إيجابي وفعّال، تدفعه دفعاً للدفاع عن معاني الحياة المثلى. ما من بلدة أو قرية أو حيّ إلاّ استقبل عشرات الجثامين لأبطال عرفوا الخوف وعاشوه، فترجموه كما يعرفون، تضحية ونبلاً وشهادة. وما من أب أو أمّ، ما من ولد أو زوجة، ما من جدّ أو جدّة إلاّ دمعت عيناه بفرح وهو يزغرد في تأبين قريب. ما من شارع إلاّ أنشد أناشيد النصر. ما من شجرة إلاّ لوّحت بمناديلها الصفراء وهي تودّع صديقاً لها توارى تحت ظلّها كما كان يفعل أيّام (وَلْدَنَتِه). ما من بقعة من سماء إلاّ فتحت غيومها لاستقبال مواكب الشهداء. كل هذه المفردات تخاف.

بخوفنا نحارب قسوتهم، خوفنا يجعلنا قرابين لما نعشق، وقسوتهم تجعل منهم كائنات جافّة من كل خير، وسرعان ما يتكسّرون أمام قدومنا، وتصير قسوتهم ناراً تشويهم حين ينفقون. أولئك هم، وهؤلاء نحن. أولئك البعيدون عن مفخرة العشق والخوف، وهؤلاء نحن الملتحمون بأنسجة العطاء والفخار والحمد. أولئك الزائلون المنسيّون، وهؤلاء نحن الباقون زهراً أبيض على أسيجة الياسمين الدمشقي.

لأنهم كذلك، ولأننا هكذا، ستحرقهم دنياهم وستحتفل بنا أيامنا، هنا وهناك في الأعلى. كيمياء الخوف والعشق تغزونا فنصير أبطالاً، وكيمياء الموت بخسّة ووضاعة تلاحقهم أينما هربوا، ومن أيّ الثغور قدموا، سيجدوننا في مواجهتهم، نغنّي ويصرخون، نخشع ويكفرون، نحيا ويموتون.

العدد 1105 - 01/5/2024