وحيد في أنقرة

قالوا إن ناسكاً كان يُجلب إليه من بيت رجلٍ تاجرٍ في كل يوم حصةً من السمن والعسل. وكان يأكل منها قوته ويرفع الباقي ويجعله في جرة. وكانت الجرة معلقةً بحبلٍ نازل من السقف. وذات يومٍ، كان الناسك مستلقياً على ظهره والعكاز في يده والجرة معلقة فوق رأسه، وأخذ يفكر في غلاء السمن والعسل. فقال: سأبيع ما في هذه الجرة بدينار وأشتري به عشر أغنام، فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر مرة، ولا تلبث إلا قليلاً حتى تصبح قطيعاً عظيماً.

واستمر في الحلم قائلاً: فأبيع قطيع الأغنام وأشتري بثمنه ثوراً وبقراً وأرضاً، فأزرع الأرض على الثيران، وأنتفع بألبان الأبقار وأجبانها. وماهي إلاً خمس سنوات حتى أكون غنياً صاحب مالٍ كثير. حينئذ سأبني بيتاً فاخراً وأشتري عبيداً وأتزوج امرأة صالحة جميلة، فتحمل وتلد لي غلاماً، فأختار له أحسن الأسماء. فإذا كبر أدّبته أحسن تأديب وأشدّد عليه، أمّا إذا لم يقبل فأضربه بهذا العكاز. ثم لوّح عكازه في الهواء فأصاب جرة العسل والسمن فكسرها وسال ما فيها على وجهه.

وما أشد الشبه بين حلم الناسك وحلم العثمانيين الجدد بإعادة السيطرة على الشرق واستعادة مجد الامبراطورية العثمانية التليد. هذا الحلم بدأ يؤثر سلباً على نفسية الطبقة الحاكمة في أنقرة، التي بدأت تعيش قلقاً وتردداً من أحلامٍ كبيرة غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع. هذا القلق والتخبط بدأ يتوضّح في خطابات العثمانيين الجدد الأخيرة. فأثناء مؤتمر حزب العدالة والتنمية الرابع يوم 30 أيلول ،2011 استحضر أردوغان من غياهب التاريخ ذكرى السلطان آلب أرسلان ومعركة ملاذكرت، التي قضى بها السلطان السلجوقي على الدويلات الكردية في شمال كردستان قبل أن ينتقل لمحاربة الروم البيزنطيين، هذه الاستعارة استفزت الأكراد وفسّروها على أن جهود العثمانيين الجدد لحل القضية التركية غير جدية بالمرّة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فعدم التطرّق لذكر الاتحاد الأوربي في ذلك الخطاب أكد رغبة أنقرة في تزعّم العالم الإسلامي، والابتعاد أو التمايز عن الاتحاد الأوربي. هذا التوجّه بدأت ملامحه بالظهور في خطاب أردوغان في القاهرة يوم 13 أيلول ،2011 حين هاجم الحضارة الغربية مواربةً، فعدَّ فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الثاني هو نهاية لحضارة سوداء. هذه النزعة القومية ذات الصبغة الدينية التي بدأت بالظهور في المجتمع التركي، انعكست سلباً على سياسة الانفتاح التركية تجاه الأقليات الدينية والقومية واحترام حقوقهم في ممارسة شعائرهم الدينية والاعتناء بتراثهم الثقافي. إذ بدأنا نرى تراجعاً في هامش حرية إبداء الرأي والمعتقد في المجتمع التركي، توجتها 20 ألف شكوى في محكمة حقوق الإنسان الأوربية.

هذه العنجهية الطورانية ذات البعد الديني والمذهبي في سياسة العثمانيين الجدد، بدأت تكشّر عن أنيابها بالتدّخل السافر في الشأن السوري الداخلي، والولوغ في الدماء السورية. فلم يكتفِ العثمانيون الجدد بدعم المجموعات المسلّحة التي تهدد أمن المجتمع السوري واستقراره، بل نصبوا أنفسهم أولياء على الشعب السوري. ففي خطاب أردوغان أمام البرلمان التركي يوم 9 تشرين الأول 2012 أعلن أردوغان أن الشعب السوري أمانة الأجداد (الدولة العثمانية) في أعناقنا (العثمانيين الجدد). مؤكداً مرة أخرى جهله في قراءة الواقع السوري، فهو لا يزال حتى الآن ينظر إليه من منظور طائفي بحت، ويبني سياسة حكومته على هذا الأساس.

الأزمة السورية شكّلت المنعطف الحاسم في سياسة العثمانيين الجدد في منطقة الشرق الأوسط، ففي بداية الأزمة دعمت أنقرة الحكومة السورية وحثتها على إجراء إصلاحات. ثم نقضتها، لتنتقل بعد ذلك إلى الدعم العلني والتحالف الرسمي مع المعارضة السورية بشقيها السياسي والمسلّح، وكانت الدولة الوحيدة التي سمحت علانية باستخدام أراضيها قاعدةً للنشاط المسلّح ضد الجمهورية العربية السورية، وبدأت تقود حملة مسعورة لجر حلف شمال الأطلسي للتدخّل عسكرياً في سورية. ذلك أن صمود الحكومة السورية بدأ يؤثر سلباً على سياسة العثمانيين الجدد الخارجية والداخلية.

وفي هذه اللحظة من الأزمة السورية، بدأ التوتر يتصاعد على الحدود السورية – التركية، وخصوصاً بعد أن اتهمت أنقرة دمشق بضلوعها في قصفٍ استهدف قرية تركية أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين. هذا الاتهام جعل الخبراء يضعون ثلاثة تصورات لما يحدث على الحدود. التصّور الأول يتّهم دمشق باستفزاز الكرامة الوطنية التركية والضغط عليها لوقف الدعم الذي تقدمه أنقرة للمعارضة السورية المسلحة. التصّور الثاني يتّهم المعارضة بالعمل على جر تركيا لحرب لا يريدها الشعب التركي. التصّور الثالث يتّهم الحكومة التركية بافتعال الحادثة لجر حلف الناتو للتدخل العسكري إعمالاً للبند الخامس من نظام الحلف، الذي يؤكد أن كل هجوم مسلح ضد أحد أعضاء الحلف يعدّ هجوماً ضد جميع الدول الأعضاء، ويتيح استخدام القوة المسلحة ضد المعتدي.

فالإحساس بخيبة الأمل من الموقف الدولي عموماً والعربي خصوصاً، وشعور أردوغان بأنه تورط في المشكلة السورية وتُرِك وحيداً في الساحة، جعله يدفع بالوضع الدولي إلى حافة الهاوية على أمل إشعال حرب في المنطقة من أجل إسقاط الحكومة السورية بالقوة المسلّحة. لأن أردوغان يدرك أن فشله في إدارة ملف الأزمة السورية قد يقضي على طموحه السياسي في تبوّؤ منصب رئيس الجمهورية التركية، ويقضي في الوقت نفسه على حزبه.

في بدايات القرن العشرين، كانت دمشق معقل المعارضة ضد سياسات حزب تركيا الفتاة العنصرية، والمسمار الأخير الذي دُقّ في نعش الدولة العثمانية. وبعد ما يقارب القرن من الزمن يبدو أن دمشق تكشف مرةً أخرى عن الطابع العنصري والطائفي البغيض لحزب العدالة والتنمية، الواجهة السياسية للعثمانيين الجدد. وتكون دمشق الصخرة التي ستتحطم عليها مشاريعهم المعدّة للمنطقة وشعوبها، فالعصا التي يرفعها العثمانيون الجدد (لتأديب دمشق) قد تحطّم (جرة السمن والعسل) التركية.

العدد 1104 - 24/4/2024