21 آذار.. اليوم العالمي للشعر….المجد لشعراء الحرية والعدالة والسلام!

 ليس مصادفة أن يخصص مثقفو العالم ومؤسساته الثقافية يوماً عالمياً احتفاء بالشعر، لما له من قيمة في حياة الإنسان، ولدوره في صقل النفوس وإبراز مكنوناتها والتعبير عن أعماقها وما يعتلج فيها من مشاعر وأحاسيس.. ومَن أجدر من لغة الشعر للقيام بهذه المهام الساحرة، فلغته وحدها بكل مكوناتها من صورة وإيقاع وتكثيف وإيجاز وانزياح تستطيع أن تنقل النار المتأججة في الدواخل الإنسانية، بينما الأجناس الأدبية الأخرى تقارب الدخان المتصاعد من الأعماق.

الشعر فن قديم، حتى إن بعضهم قال: إن اللغة بدأت بالشعر والغناء، فمنذ فجر الصيحة الأولى إلى أن تشكلت المنظومات اللغوية المرتبطة بالتطور العقلي والمعرفي والاجتماعي للإنسان، ذلك هو تاريخ نشأة الشعر وتطوره.. لهذا يعتقد الكثيرون أن الشعر على ما فيه من تعقيد وصناعة أسبق في الوجود من النثر بمختلف أنواعه وأشكاله.

قدرة الشعر التعبيرية الصادقة والفريدة وارتباطه بإيقاعات النفس البشرية وتطور الحياة الاجتماعية ضمن له الوجود والتطور والاستمرار.

وظائف الشعر كثيرة، مرتبطة بتطور الإنسان وحاجاته، وظيفته نابعة من طبيعته، فقد بدأ مع ظهور الإنسان موحِّداً لإيقاع العمل ومنظماً لدفقات احتياجاته النفسية، واغتنى مع مرور الزمن بتقدم الاحتياجات الإنسانية، إلى أن انتقل من الحاجة إلى الضرورة الحياتية، وكيف نستطيع الفصل بين الشعر والغناء، أسّه وتوءمه؟!

للعرب تجربة غنية في الشعر، فهو من أقدم الفنون الأدبية عندهم، حتى سمّي (ديوان العرب)، يسجل مآثرهم ويدوّن وقائعهم وأيامهم، ويعكس بنيتهم العقلية ويصور حياتهم الفكرية والاجتماعية بما فيها من عادات وتقاليد وثقافات متداخلة تجسد حالة التراكم والغنى الحضاري والانفتاح المعرفي.

يحاول بعضهم أن يجرد الشعر من وظائفه الاجتماعية والمعرفية، قائلين: كلما ابتعد الشعر عن وظيفته اقترب من فنيته، وحقق صفاءه بعيداً عن الحمولات المضافة إليه من أفكار أخلاقية وقيم فكرية ومبادئ سياسية.

ابتعاد الشعر عن الحمولات المضافة إليه شيء، وتحريره من وظائفه شيء مختلف تماماً، فعودة الشعر إلى رحاب الإنسانية (الجوهر) ومقاربته الهموم الكبرى للبشرية (الحرية، الجمال، الأخلاق، العدالة، الوطنية) هي جوهر الشعر يحملها ويبشّر بها، أما أن يصبح الشعر أسير الأيديولوجيات العابرة والمتغيرة ويرهن نفسه حبيساً لقوالبها، مردداً أصداءها الجامدة، مقتصراً على الأفكار، فهذا ما يبعده عن وظيفته الجمالية الاجتماعية الإنسانية، لأنه أصلاً ترداد لآهات النفس البشرية وغور لأعماقها، وعامل هام في إعادة التوازن المفقود بين الإنسان والطبيعة، وقيمة كبرى في تعزيز الانتماء إلى الوطن (المقدمة الطللية في الشعر الجاهلي، وغنائيات حب الوطن).. كل هذا يساعد على تكوين إنسان سويّ يبتغي التكامل والاكتمال، في محاولة لمقاومة التشييء والتسليع، في عالم يُغرق إنسانه في التفاهة ويحوله إلى سلعة في سوق التداول.. وليس مصادفة أن يتوافق يوم الشعر العالمي مع عيد الأم (العربي)، والصلة بين الشعر والأم ليست علاقة بين الأصل والفرع، بين الأرض والإنسان، والجامع بينهم ليس العطاء وحده.

تحرير الشعر من حمولاته المضافة واجب الشعراء، وقيام الشعر بدوره في معارك المصير والمواجهات الكبرى التي تخص الإنسان (الكوكبي) مهمة جليلة، ومن أفضل وأجدر من الشعر للقيام بها في فلترة القيم والمفاهيم الموروثة والانتقال إلى احتياجات العصر؟

المجد للشعراء، صوت الحرية والعدالة والجمال في أية أرض كانوا، وفي أي عصر وجدوا.. المجد للكلمة الصادقة المضيئة التي تخرج الإنسان من بحر الظلمات التي يقاد إليها.. المجد لكم أيها الشعراء في عيدكم، فأنتم المشاعل وصوت الحقيقة الإنسانية مهما حاولت أيدي البغي والتخلف والظلامية كمّ أفواهكم وبتر أصابعكم وقطع رؤوسكم، فستبقى صرخاتكم (بشيراً) بالحب والسلام في وجه الكراهية والعنف، وها هي ذي صرخة (أنتيغون): (ولدت لأحبّ، لا لأكره)! تتجاوز أصداؤها الأمكنة والأزمنة والقارات، منتصرة للمحبة، تعانق نداءات طاغور، بول إلوار، بابلو نيرودا، جبران خليل جبران، محمود درويش وغيرهم وغيرهم بدعوتهم إلى الحب والتسامح والانتصار لإنسانية الإنسان المهدورة في وجه التوحش وعبودية الجهل والتخلف.

العدد 1105 - 01/5/2024