ذكريات الحوار الأول مع شاعر بحجم الوطن…

أجرى الأديب والناقد اللبناني الأستاذ محمد دكروب في العام 1968 حواراً مع شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش. وفي عام 2008 – بعد رحيل درويش – كتب الأستاذ دكروب ذكرياته عن ذلك الحوار الذي يعدّ اليوم وثيقة ثقافية وأدبية وشعرية وإنسانية هامة ـ تضاف إلى رصيد الشاعر المبدع الراحل محمود درويش، الذي يعد منذ ستينيات القرن العشرين صاحب موقع متفرد في الشعر العربي المعاصر. فهو متفرد بموهبته الاستثنائية التي قفز بها عبر الأسوار الفنية للقصيدة العربية وتخطى المراحل التي عرفتها القصيدة منذ الخمسينيات حتى الآن، فأصبح واحداً من أبرز الرواد الحقيقيين للقصيدة الشعرية. فقد استطاع أن يصل من كينونة وهوية فلسطينية إلى هوية عربية ثم ارتقى ليصبح شاعراً عالمياً.

ويعدّ درويش اليوم أحد الأسماء الشعرية العربية التي حملت الألم والوجع الفلسطيني إلى الكون، ومن الذين استطاعوا أن يشكلوا نقطة فارقة في الثقافة العربية والإنسانية لينضم إلى مجموعة الأصوات الحرة التي تنادي بالحرية والحق وقيم الجمال.

ألم يكشف لنا الأستاذ دكروب، في مقالة له بعنوان(بين شعر القضية وقضية الشعر)، أن الشاعر الشاب(كان يرجو – كما قال لي منذ أربعين عاماً – أن يكون امتداداً نحيلاً لأمثال ناظم حكمت ولوركا وأراغون، فصار واحداً من كبار شعراء العالم، يضيء، بملامح شعره الفلسطينية وعمقها، دنيا الشعر في هذا العالم الواسع).

محمود درويش الذي عاش غريباً في وطنه، منذ أن حوَّل المحتل الصهيوني قريته البروة إلى (كيبوتس يسعور)، لم يكن أبداً غريباً عن وطنه، وتشبّث بالأرض حتى الموت، وكان لسان حال أبناء شعبه حين قال عن الوطن: (لقد تمرّس كثيراً بكلّ الأشكال والألوان، مات كثيراً، وعاش كثيراً. أسماؤه تتغيّر، وأشجاره تموت وتحيا، ونحن نعانقه عناق الموت ــ حتى الموت… ومن داخل هذا العناق المتوهّج نرى مرور الزّوابع التي تنكسر على سواعدنا الملتفّة حول هذا الوطن، حتى لو أصبح سجناً ومنافي). لا يعرف قدر شاعر كبير إلا صحفي كبير، والأستاذ محمد دكروب هو واحد من هؤلاء الكبار الّذين التقوا محمود درويش في بدايات رحلته مع الشعر والحياة والسياسة قبل أن يغادر الوطن المحتل. حينذاك أجرى الأستاذ (دكروب) مع شاعرنا حواراً مختلفاً ومدهشاً. ولعل الطريف في الأمر أن دكروب عاد – إثر رحيل الشاعر في التاسع من آب/ أغسطس ،2008 أي بعد مرور نحو أربعين عاماً على إجراء ذلك الحوار ـ عاد ليحدثنا عن الأجواء التي دار فيها هذا الحوار. يقول الناقد اللبناني:(في حديث ثقافي قديم أجريته مع محمود درويش ـ ذات يوم من أيام عام ،1968 في صوفيا، أيام مهرجان الشباب العالمي، قبيل انتقاله العاصف من فلسطين المحتلة إلى مصر وسائر بلدان العرب، قال لي، بثقة مَن يحدّد موقعه على خريطة الشعر، في ذلك الزمان:(إنني أعتبر نفسي امتداداً نحيلاً، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً من الصعاليك حتى ناظم حكمت ولوركا وأراغون الذين هضمتُ تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدّوني بوقود معنوي ضخم). .. كانت القضية إحدى حوامل شعره الأول. صار الشعر هو قضية محمود درويش. وظلّ محمود درويش جماهيرياً، بالعمق والمدى الشاسع. كان يرجو ـ كما قال لي منذ أربعين عاماً ـ أن يكون امتداداً نحيلاً لأمثال ناظم حكمت ولوركا وأراغون، فصار واحداً من كبار شعراء العالم، يضيء، بملامح شعره القضية الفلسطينية وعمقها، دنيا الشعر في هذا العالم الواسع).

وفي هذا الحديث يكشف سيد الكلام، الغائب الحاضر، عن تفاصيل كثيرة عن مرحلة النشأة، والطفولة:(طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل .. طفولتي كانت ضحية عدوان). وعن اللجوء في الوطن: (اسمي الآن: لاجئ فلسطيني في فلسطين!). وعن الموهبة الأولى التي قادته إلى الشعر: (كانت موهبة التأمل). وعن القصائد الأولى:(لا أذكر الحافز المباشر لكتابة (القصيدة) الأولى، وإن كنت أذكر أني حاولت، في سن مبكرة، كتابة (قصيدة طويلة) عن عودتي إلى الوطن). وعن المعارك الفكرية والاجتماعية التي مارسها.. وعن محاربة السلطة له ولشعره.. وعن السجن:(كل هذه المعارك تقريباً تدور، مباشرة، في دائرة المعركة السياسية، سواء كانت السلطة الطرف الآخر والمباشر، وسواء كان الفكر الرجعي أو الانتهازي أو العدمي محفوفاً بعطف السلطة أو تأييدها أو لا يعدو كونه جندياً من جنودها). و(في الميدان الأدبي، دخلنا عدة معارك حول الالتزام في الأدب، وما هو الأدب؟ وهل هو للحياة أم لذاته؟ وغيرها من المواضيع التي شغلت حياتنا الأدبية، بشكل ملح، ذات يوم. ثم إن كان لابد من دخول معركة حول قضية كانت قضية الساعة: قضية الشعر الحديث، وغيرها من المناقشات الدائرة حول قضايا الفن والأدب، والروايات العربية الرخيصة التي أغرقت المكتبات)..

ويضيف الشاعر أنه في عام 1961 حاولت سلطة الاحتلال(تقديمي إلى المحاكمة على قصيدة عن غزة، واستدعيت للتحقيق وقُدمت لي لائحة اتهام، ونشرت الصحف أن العقوبة ستبلغ خمس سنوات سجن، ولم أُحاكم حتى الآن. ولكني حوكمت لأني سافرت إلى القدس لإلقاء قصيدة. وسجنت شهرين. وأذكر أني في عام 1961 وجدت نفسي في غرفة التوقيف لمدة عشرة أيام بدون تهمة وبدون تحقيق. وفي حرب حزيران اعتقلت مرة أخرى).

ويسأل المُحاور عن الشعر، فيقول (لاعب النرد): (بصراحة: لا أعرف ما هو الشعر بالضبط!).

العدد 1105 - 01/5/2024