عندما يصرخ بنا التاريخ: أنا أعيد نفسي…

لا شكّ أن كثرة تداولنا لمقولة أو حكمة ما قد يفقدها بعض قيمتها ودلالتها حتى لتغدو أحياناً أشبه بلازمة إنشائية خاوية من المعنى والمضمون، لا تؤدي الغاية المرجوة منها في بعض المفاصل التاريخية التي قد يبلغ مدى تشابه وقائعها مع أحداث  تاريخية سابقة حداً يجاوز قدرة التأثير البلاغية الكامنة في أي عبارة على التعبير عنه بأمانة كاملة. ومع ذلك.. لا يسعنا في خضمّ هذه الحمّى التي تجتاحنا اليوم إلا أن نستعيد ذلك القول المأثور البالغ البساطة والإيجاز (التاريخ يعيد نفسه)، ولنتساءل أيضاً: هل يفعل ذلك عبثاً؟ وذلك لكيلا نجد أنفسنا لاحقاً في مقام  لائق  بسوق ذلك المثل الشعبي المعروف الذي يقال لمن يقع في ذات المطب (الحفرة) أكثر من مرة.

ولأن الأدب هو مرآة الواقع وذاكرة الشعوب، أو هذا ما يفترض به أن يكون، فسنحاول البحث عن إجابة ما في ثنايا نصين أدبيين مقتطعين – بقليل جداً من التصرف – من عملين روائيين عربيين شهيرين حاول صاحباهما تقديم صورة حية عن أحداث واقعية ألمت ببلدين عربيين خلال مرحلتين زمنيتين بالغتَيْ الأهمية من القرن المنصرم.

يورد الروائي الكبير نجيب محفوظ في روايته (السمّان والخريف) الصادرة عام 1972 على لسان بطله وصفاً لحال شوارع وأزقة (أم الدنيا) في أواسط القرن العشرين: واصل تقدمه الحذر البطيء وهو يتفحص ما حوله، وتساءل في دهشٍ: (أين البوليس.. أين الجيش؟) وفي شارع إبراهيم تجلت حقيقة اليوم بصورة  أبشع.. خلا الميدان للغاضبين.. انفجر مكنون اللاوعي كالبركان، صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أي قائم على الجانبين، بترول يراق، حرائق تشتعل، أبواب تتحطم، بضائع تنتشر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة.. الجنون نفسه بلا رقيب، ها هي ذي القاهرة تثور، ولكنها تثور على نفسها، إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها.. إنها تنتحر، واستفحل نشاط غريزته التي تتنبأ بالمخاوف، وأيقن أن مأساة حقيقية سيرفع عنها ستار الغد، ثمة خطر يتهدد صميم حياتنا، يتهددنا نحن لا الإنكليز، يتهدد القاهرة والمعركة القائمة في القنال، ومضى يقترب من قلب المدينة في ذهول تام، الضوضاء فوق كل احتمال كأن كل ذرة في الأرض تصرخ، اللهيب ينطلق من كل موقع، الدخان يتربع مكان السماء، هتافات غامضة كأنما تنبثق من الدخان، غلمان يخربون كل شيء في نشوة وبلا مبالاة، أنتم لا تدرون ما تفعلون.. إن فرقة كاملة من الانكليز لتعجز عن إحداث عُشر هذا الخراب.. انتهت معركة القنال.. خسرنا المعركة، وعند الأركان في الشوارع الرئيسية لبِد رجال يحرضون: أحرق.. خرب.. ليحيا الوطن، إنهم وجوه غريبة لا هي من حزبه ولا من الأحزاب الأخر.. إنها وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر. أحرق.. خرب.. ليحيا الوطن! يا للأوغاد! هل تذهب دماء القنال هدراً؟ وأرواح جنود البوليس وضباطهم؟ ماذا يقول الفدائي الغاضب لقلة السلاح إذا اطلع على هذا المشهد الدامي؟ ما عسى أن يقول لو سمع نداء  المؤامرة: أحرق.. خرب.. ليحيا الوطن؟!

ثم بعد نحو ثلاثة عقود، تطالعنا الروائية أحلام مستغانمي عبر روايتها (عابر سرير) الصادرة عام 2002 بشهادة  تنضح ألماً عن الكابوس الذي جثم على صدر بلد المليون شهيد في تسعينيات القرن ذاته:

المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية، وأنا في طريقي إلى العاصمة آتياً من قسنطينة بالسيارة برغم تحذير البعض، كنت مع زميل عندما استوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها وما زالت مذهولة أمام موتاها، لم يكن ثمة من خوف بعد أن عاد الموت ليختبىء في الغابات المنيعة المجاورة، محاطاً بغنائمه وسباياه من العذارى ولن يخرج إلا في غارات ليلية على قرية أخرى شاهراً أدوات قتله البدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه مذ صدرت فتوى تبشر (المجاهدين) بمزيد من الثواب، إن هم استعملوا السلاح الأبيض الصدئ من فؤوس وسيوف وسواطير لقطع الرؤوس وبقر البطون وتقطيع الرضع إرباً. قلما كان القتلة يعودون لأنهم قلما تركوا خلفهم شيئاً يشي بالحياة، حتى المواشي كانت تجاور جثث أصحابها وتموت ميتة تتساوى فيها أخيراً بالإنسان. ذات صباح قصدت رفقة زميل تلك القرية، احتطنا طبعاً لمفاجآت الطريق بعدم أخذنا بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا في قبضة حاجز أمني مزور ينصبه القتلة لاصطياد من يضطر لسلوك تلك الطريق بالسيارة ممن يعملون في (دولة الطاغوت) الكافرة، أي باختصار أي أحد يملك بطاقة عليها ختم رسمي ولو كان يعمل زبالا  في البلدية، أو أي مخلوق لا تروق لهم هيئته فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به، أو يصطحبونه إلى مخابئهم إن كان ممن يحتاجون إلى خدماته، كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت وأصبحت مشابهة تماماً لحواجز رجال الأمن الحقيقيين الذين سطا الإرهابيون على بذاتهم العسكرية وأسلحتهم مما أوقع الناس في بلبلة وحيرة.

شهادتان من أديبين مرموقين تبدوان لشدة واقعيتهما أشبه بتقارير مراسلي المحطات الإخبارية التي اعتدنا سماعها اليوم، إنهما غيض  من فيض صور  يزخر بها أرشيف تاريخٍ لا يفتأ يصرخ بنا: ها أنذا أعيد نفسي كرةً أخرى.. فهل من معتبر؟

العدد 1105 - 01/5/2024