ذات ثلج… مبكر!

(ثلج.. ثلج عمّ بتشتّي الدنيا ثلج) لطالما سحرتنا هذه الكلمات، لدرجة أننا عددناها في لاوعينا الجمعي، أيقونة الرومانسية، ولم نشأ أن نسمعها سريعاً ونمضي لشأننا، كأنما كنا نقطرها حرفاً حرفاً ونبضاً نبضاً. ولتحملنا السيدة فيروز إلى فضاءات اللون والعطر والإحساس، مؤثثة خيالاتنا بمجازات نضرة، كعادتها وهي تولِمُ لأرواحنا أفراحها ووعود جمالها.

كثيفاً كان الثلج، ليغطي لا الأرض وما عليها فحسب، بل تلك المساحات من النفوس الظمأى للحظة سلام سماوية بطعم النقاء الكوني. ثمة رسالة بثتها السماء وتلقفتها الأرض، يقول متفاؤل أزلي، ولعله وجد في ذلك المتن الأبيض، هوامش ولو ضئيلة لفرح مفقود وابتسامة مخبأة استدرجتها نصوص البياض لأن تشرق قليلاً فوق (الثلج الحار). ولا أعني هنا بهذا العنوان الكنائي العودة لرائعة الروسي نيقولاي أوستروفسكي بجزأيها، لكنه اتكأ على مجاز يماهي بين الواقع والمتخيل. فبعيداً عن ناره ونيرانه والتباس ربيعه، قالوا: (ثلج الشرق الأوسط). هجستُ في سري: لعلها استعارة فحسب ليُسدل على الأرض ثوب عافية منتظرة، مبلسماً جراحاتها ومحيلاً دورة آلامها القسرية إلى دورة آمال تكفي إرهاصاتها، لتعلن أنه ليس مجرد طقس شتوي عابر. حسناً ربما شكل هطل الثلج مناسبة لتغيُّر الأمزجة والأحاديث. غمرنا الثلج، ارتفعت المياه هناك، وهكذا يفصح المستوى اللغوي عن لغة طال انتظارها، تسكب فيه النفوس رغبات حبيسة باللعب واستعادة طقوس طفولية برشق المارة  ودّياً  بكرات الثلج. لعب بريء أقصى ما يتوسله هو إشاعة الضحك. ولو أنه قد أصبح نادراً هذه الأيام، بل جِد استثنائي حد اتهام الضاحكين بشيء من الهذيان أو الترف، وفي أحسن الأحوال الإفراط في المبالغة. ذلك أن جدية الواقع ينبغي لنا أن نقابلها بالتجهم الدائم واجتراح بكائيات متواترة، بما يعني تالياً ألا نتجاوز هشاشتنا الداخلية الجارحة التي سرعان ما تتشظى كحُبيبات البلور. وجمِّعْها إذا قدرت على تجميعها (لا تضحّك الناس علينا) يقول متشائم ظل على حيرة النجمات وزهور الطرقات.

 لا عزاء للثلوج إذا لم تنهض فينا لحظة سلام ولو عابرة، حسبها أنها قد ترسو في قيعان الأنا نشيداً لفرط شفافيته تمسه الروح بأصابعها الناحلة والعاشقة.

 وبعد قليل من زيارة دافئة سيفقد الثلج هيئته وما شكلته أنامل الصغار أمام البيوت، سيستأذن الثلج بالانصراف وقد مسح عن خد الأرض دمعة تائهة، وامتص ألواناً داكنة أرهقتها وأثقلت خلاياها وجيناتها.

 ذاهب ذلك الثلج الذي أدهش صباحات دمشق بمخاتلته ياسمينها العريق، إلى الذاكرة ليستنبت ذكرى وبشارة صادقة، بكثافة بيضاء استثنائية هذه المرة في زمانها ومكانها وفسحة من حلم جهرت به ليواسي حبق الشرفات الذي أبى أن يقتحمه اليأس، وعصافير الأسطحة التي ارتجفت أجنحتها في أكثر من صباح، وفي أكثر من مساء، وليواسي  ربما  نقص حنان، لينجو الجمال والحب من خفة القبح المستشري في أوصال الكون، وعبث العالم الآخر بالأعمار والأقدار.

وطن الثلج رحب وبالغ الاتساع ولنا أن نعتد بأحلامه السارية في الكائنات الضعيفة، التي خيل لها ذات يأس أنها نسيت ارتجال أحلامها الغضة وأمسياتها الهاربة من الخوف والعزلة والنسيان.

لن يجد التلاميذ فرصة لهجاء الثلج، ربما تعلو المدائح وبغير طريقة، لزائر رشيق عرف كيف يأتي في موعده متكئاً على دهشتنا واضطراب فصولنا.

يقول الراحل محمود درويش: (للحقيقة وجهان والثلج أسود)، سيقال هنا مجاز شاعر أطل على ما يريد، لعل الثلج ليس بوسعه تماماً إخفاء نزف فوق جلد الأرض، لكنه شيء من الاختلاف لا يقصي حقيقة إضافية: كما النثر فضّاح  على حد تعبير جدنا الجرجاني، كذلك هو الثلج بكامل غوايته المستحيلة وجنونه الأبيض.

العدد 1107 - 22/5/2024