صندوق النقد ليس مؤسسة خيرية بل وسيلة الإمبريالية للسيطرة على بلدان العالم الثالث

 أصبحت مشكلة الدين الخارجي لمصر مشكلة خطيرة، لأن الحاجة إلى الاستدانة في ازدياد، نتيجة العجز في الميزان التجاري، إضافة إلى العجز في الميزانية الداخلية بالاستدانة من المصارف ومن أموال صناديق المعاشات. والاستدانة من الخارج في ازدياد، في الوقت الذي تزداد فيه فوائد الديون وتتراكم أقساط القروض (الديون) إلى الحد الذي يزيد من صعوبة الوفاء بها (أقساطاً وفوائد)، لذلك أصبح من المعتاد أن تلجأ السلطة إلى البحث عن إمكانية تأجيل دفع أقساط الدين وفوائده.

وذلك راجع إلى الاختلال البنيوي في الاقتصاد المحلي الذي يظهر عجزاً في الميزان التجاري لصالح الاستيراد وعجزاً في ميزانية الدولة ونمواً محدوداً في الدخل القومي الإجمالي، مما يجعل الاقتراض ليس حاجة من أجل التنمية، بل حاجة من أجل سداد العجوز،  سواء في الميزان التجاري أم  في ميزانية الدولة.

وهذا ما حدا بالسلطة القائمة إلى طلب قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 8,4 مليارات دولار وسط تهليل يدعي النجاح في إتمام القرض، والادعاء بأنه أفضل من الاقتراض من الداخل (المصارف وصناديق المعاشات) لأن فائدته 1,1%، والداخل 12%. وهناك مغالطة واضحة، ذلك أن فائدة المصرف الدولي بالدولار، يعني تمثل الفائدة نحو 7% بالجنيه المصري، مقابل 12% للقرض الداخلي.

 

دوامة مستعصية على الحل

لكننا لا نركز على هذه المغالطة من السلطة، إنما المهم القول إن صندوق النقد (وكذلك المصرف الدولي في حالات أخرى) تحدد المسارات التي تذهب إليها هذه القروض. وهي غالباً مجالات استيراد سلع من المراكز الرأسمالية والشركات الاحتكارية الدولية. أو تحسينات في البنية المرتبطة بالسياحة أو غير ذلك مما يخدم مصالح الجهات المقرضة، فتهدر دون أن تخدم أي هدف اقتصادي محدد مثل بناء سد عالٍ، أو إنشاء صناعات محددة متقدمة تكنولوجياً، أو تطوير جذري للزراعة أو أي مجال لزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، بهدف تقليص الاستيراد وتوفير الحاجات الأساسية المحلية.

وبالتالي يفرض هذا النمط من الاقتراض السير في دوامة مستعصية على الحل في إطار النظام الرأسمالي التابع الحاكم، إذ تصبح الحاجة ماسة إلى الاقتراض من أجل سداد الديون السابقة، ليزداد العجز السابق بعجز جديد، قد يصل إلى أن الديون تأكل الناتج القومي أو جزءاً كبيراً منه بحيث لا يعود يفي بسدادها. بما يعني أن المؤسسات المالية الدولية، وأغلب رأسمالها أمريكي، سوف تضع يدها على بلادنا كما فعلت بريطانيا معنا بعد الديون الباهظة التي استدانها الخديوي إسماعيل وأدت إلى احتلالنا في نهاية القرن التاسع عشر.

وصندوق النقد والمصرف الدوليان ليسا مؤسستين خيريتين، إنما هما من وسائل الإمبريالية للسيطرة على بلدان العالم الثالث المتخلفة مثل بلادنا، فهي تحقق الربح رغم انخفاض الفوائد، لأن عدم سداد الأقساط والفوائد يضاف إلى أصل الدين، إذ تعد قسط القرض الذي لم يسدد ديناً جديداً، فتتضاعف الفوائد مما يحول الأمر إلى ربا المرابي اليهودي في عصور الإقطاع. وبذلك تتحكم في مسار النمو الاقتصادي في بلادنا بما يحقق شروطاً أفضل لشركات الاستثمار العالمية ولبيع السلع المختلفة المنتجة في المركز الرأسمالي.

فيتزايد الاستيراد والاقتراض لتزايد الطلب الداخلي على السلع لسببين: أولاً تزايد عدد السكان والاستهلاك المجنون للطبقات العليا والمتوسطة الساعية إلى تقليدها والطبقات الشعبية التي لا تستهلك إلا الخبز والطعام والكساء الضروري لحياتها مع بعض التقاليد الاستهلاكية الجديدة المنتقلة إليها من جنون القادرين. إلا أن العامل الأساسي هو الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي. كل ذلك ناتج عن العجز (عدم الإرادة السياسية) عن بناء صناعة تفي بالطلب الكلي المحلي وكذلك تدهور الزراعة وعجزها عن تلبية الحاجة للسلع الأساسية (قمح، سكر، أرز، زيوت، لحوم، أسماك)، وبالتالي اللجوء إلى استيراد معظم السلع التي ارتفعت أسعارها بعد ارتفاع أسعار النفط. إضافة إلى عوامل مساعدة مثل ازدياد نسبة التضخم في العالم الرأسمالي الذي نستورد منه فينتقل إلينا مع سلعه المستوردة بما يؤدي إلى إفقار وزيادة إفقار الجماهير الشعبية التي تتحمل في النهاية هذه الأسعار.

 

مقترحات رئيسة الصندوق

جاءت رئيسة صندوق النقد الدولي ومعها فريقها لدراسة وتقييم وضع اقتصادنا وأين تنفق الميزانية مع مراجعتها بنداً بنداً وإبداء الملاحظات بشأنها وشأن مواردها ثم يقدمون النصائح والمقترحات وهي بسيطة جداً، منها وقف دعم الدولة للسلع الأساسية أو تقليله إلى أقصى حد، أي التراجع ثم التوقف عن دعم الفقراء وتوجيه القرض إلى سبل محددة ليس بينها الصناعة أو الزراعة، إذ لو تم تقويتهما لما عدنا بحاجة إلى القروض المؤدية إلى السيطرة الأجنبية، ولكن إلى بناء طرق حديثة تيسّر أسفار أصحاب  الملاكي وتحسين الاتصالات بالمحمول، الذي صار آفة استهلاكية خطيرة وبناء المطارات والمكاتب الإدارية الفخمة. هذه النصائح = التعليمات الجادة والحاسمة يجري إخفاؤها عن الشعب، لكنها تنفذ وتقدم السلطة للشعب أسباباً خادعة لتغطية خضوعها.

ليس هذا فقط بل إن الصندوق يأخذ تعهدات بأن يحكم السوق الحرة والمنافسة الحرة توجهات الحكم لأنها القِيَمْ العليا لليبرالية أو النيوليبرالية، ولكي يسود في الداخل السعر العالمي للسلعة دون تدخل من السلطة، ودون حاجة إلى حواجز وقوانين تعوق هذه الحرية. يعني يفرض الصندوق خياراً اقتصادياً سياسياً يقوم على أساس (تحسين) اندماج بلادنا في السوق الرأسمالية العالمية، أي تحسين شروط السيطرة الأمريكية الأوربية على أسواقنا واقتصادنا. ومن المعلوم أن هذا (التحسين) هو لصالح الإمبريالية لأنها تزيح أي معوقات لسيطرتها (سياسية  اقتصادية  تشريعية).

قد تسمح المؤسسات الإمبريالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي بقيام بعض الصناعات الخفيفة في بلادنا، لكن غير الحاسمة في تطور اقتصادنا، ليتحول إلى اقتصاد صناعي زراعي متقدم، تقوم بها عناصر الرأسمالية المحلية المرتبطة بالشركات الأم في المراكز الرأسمالية الكبرى مثل صناعات التجميع لتكسب الفتات الذي تتركه لها الشركات الاحتكارية الكبرى. وهذا يؤدي إلى تهميش أرباحها ويمنعها من استخدامه وتدويره في العملية الإنتاجية لتوسيعها إلا ما ندر، وبما يؤدي إلى تهميش معدل النمو المحلي، ويزيد من الحاجة إلى الاستيراد والاقتراض لسد العجز الناتج عن الفارق بين التصدير والاستيراد. فتقرضها المؤسسات الدولية أو المصارف الأجنبية أو الشركات الاحتكارية عن طريق فتح تسهيلات مصرفية لتتواصل الديون والعجز ويتواصل النهب والسيطرة.

ويظل شعبنا مهدداً بالجوع بلا أدنى مبالغة، فنحن نهلل كثيراً بأن البلاد لديها رصيد من القمح يكفي ثلاثة أشهر، وماذا بعد ذلك؟ الاستيراد، وفي ظل الحاجة الملحة يصدر إلينا أسوأ أنواع الحبوب والمواد الغذائية الأخرى. وقد تكون علفاً لمواشي المراكز، وفي بعض البلدان الإفريقية تغذي  الولايات المتحدة حروباً أهلية أو حدودية مدمرة تخفف بقتلاها من الضغط السكاني في هذه البلدان، ونأمل ألا نصل إلى هذه الحالة. لكنها ليست مستبعدة. أَوَ لا يعني تصديرنا للغاز أنه لا توجد صناعات وطنية كثيفة ومتسعة ومتطورة تستهلك هذا الغاز لتشغيل مصانعنا؟ إنه تبديد لثروة قومية من الأفضل الإبقاء عليها في مخزونها تحت الأرض لنستفيد منها، عندما يحين التطوير الصناعي الحاسم في وقت قادم. لكن الرأسمالية النهَّابة الحاكمة لا يهمها مستقبل الوطن والشعب، وتضعهما معاً لقمة سائغة للنهب الاستعماري المدمر.

إن المراكز الرأسمالية الاستعمارية تسعّر سلعها ومنتجاتها وفقاً لقيمة قوة العمل والمواد الخام لديها، وهي مرتفعة. لكن الأجور هناك ودخل الأسرة يتناسب مع هذه الأسعار. وعندما تصدَّر إلينا وتباع في أسواقنا هذه السلع فإنها تباع لشعب أغلبيته لا تحصل على أجور عالية، ولا دخل الأسرة يتناسب مع الأسعار، فتعتبر هذه الأسعار اقتطاعاً من دخلها المتدني، يعني نهب استعماري يصب في أرباح الشركات الاحتكارية الدولية وفي جيوب المستوردين والتجار الكبار المصريين.

فإذا أتت الشركات الدولية للاستثمار في بلادنا، كما تلح السلطة في طلب ذلك، فإنها تحول أرباحها العالية المتحققة من تدني أجور العمال وتدني أثمان المواد الخام إلى المراكز وبالعملة الصعبة. يعني تحقق أرباحها بالجنيه المصري وتطلب من الحكومة تحويله إلى دولار، وعندما لا تجد الدولارات اللازمة للتحويل، نقترض لنسدد لهذه الشركات أرباحها المتحققة على أرضنا، بفضل قوة عملنا وموادنا. إنه النهب المنظم والاستسلام والخضوع من جانب سلطاتنا. وفي العادة تتجاوز أرباح هذه الشركات رساميلها الموظفة في بلادنا.

 

الإلحاق الاقتصادي والاستعماري

لقد أصبح الإلحاق الاقتصادي، بتعبير البعض، هو شكل الإلحاق الاستعماري التقليدي القديم المتحقق بالقوات العسكرية، وإن لم يلغها تماماً فهي وسيلة جاهزة لاستخدامها عند اللزوم. عماد هذا الإلحاق يقوم على أولية التجارة  الخدمات  المال على كل نشاط إنتاجي حقيقي صناعي زراعي متقدم.

إن القروض الإمبريالية لا تسهم في تطوير الدخل القومي، لأنها غالباً لا توظف في مشروعات صناعية وزراعية واسعة، بل توظف في شراء السلع من الشركات الأجنبية، أو في مجال تحسين ظروف السياحة كي يتفرج علينا الأجانب في راحة ويسر، أو في الإدارة والمواصلات والطرق مما يضع بلادنا على حافة الإفلاس.

 

وما الحل؟

الأمر يحتاج إلى ثورة سياسية شاملة عمادها سلطة وطنية شعبية:

– ترفض القروض الخارجية بالشروط المعادية للجماهير المفقرة لها، إلا أن تكون لتنفيذ مشروع صناعي أو زراعي هائل يفتح الباب لتصنيع بلادنا. فالصناعة أساس تقدم الزراعة. (كما فعل عبد الناصر عندما طلب قرضاً لتمويل مشروع إنشاء السد العالي) وبلا أي شروط استعمارية.

 الاعتماد على الادخار المحلي مع التحفيز على الادخار بزيادة أسعار الفائدة للمدخرين، أو أي إجراءات أخرى.

 إحداث تغييرات جذرية في نظام الأجور، في الحكومة والقطاع العام، وبما أننا دولة فقيرة ومقترضة ومدينة فلا يجوز أن يزيد أجر أكبر منصب على 15 ألف جنيه في الشهر، وفرض التقشف على أجهزة الحكم، وإعادة ترتيب الموازنة العامة لتوجيهها للاستثمار بصفة أساسية. كما لا يجوز لدولة مدينة للعالم أن تفتح باب الحج والعمرة على مصراعيه، الذي يبدد جزءاً من مواردنا من النقد الأجنبي، أو العلاج في الخارج، أو الإسراف في الصرف على بعثاتنا الدبلوماسية التي يجب تقليص عددها إلى النصف، مع إعادة النظر في أجور العاملين بها. فنحن فقراء ومدينون.

 تمويل العجز الداخلي (عجز الموازنة العامة)، بل وتمويل بعض المشروعات الصناعية والزراعية الكبرى، من فرض ضرائب تصاعدية على تصاعد أرباح الرأسماليين، ومن استرداد الأموال المنهوبة من البلاد من رأسماليي وحكام النظام المباركي، وتأميم بعض الصناعات الكبرى، مثل صناعة الأسمنت وحديد عز المقامة، بالتحايل والسلب والنهب. أم أن سلطة الرأسمالية التابعة الحاكمة حساسة من إجراء التأميم وسيرته وأيامه ودلالاته الوطنية الإنمائية؟

 بناء صناعة وطنية، وتطوير جذري للزراعة، بما يسمح بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وما يتطلبه ذلك من دعم الفلاحين واستصلاح الأراضي وتمليكها لمن يفلحها.

 قطع علاقة التبعية مع الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على السوق الرأسمالية العالمية. وتحقيق الاستقلال الوطني الناجز، وبروز مصر دولةً حديثة قادرة على حل أزماتها الاقتصادية بإجراءات داخلية، لا بروشتة صندوق النقد الدولي مرابي العصر والأوان، وبما يحقق تراكماً رأسمالياً يخدم تطورنا المستقل. ويتضمن ذلك استنفار الشعب لمقاطعة السلع الأمريكية المنشأ، ومقاطعة تجار ووكلاء توزيع سلعها.

أحمد عبد الحليم حسين

عن «القاهرة»

العدد 1105 - 01/5/2024