تشومسكي… تأملات في الحركة الصهيونية وتشابكاتها الإمبريالية

قصور السياسة الفلسطينية.. إغفال النشاط الجماهيري في عام 1967 سددت إسرائيل ضربة أليمة لناصر، وانطوت على أهمية حاسمة بالنسبة للسيطرة على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط. آنذاك كانت مصر مشتبكة في حرب فعلية مع العربية السعودية، هي حرب بالنيابة. كانت السعودية والأصولية الإسلامية يحظيان بمحبة الولايات المتحدة الأمريكية، واستمرت العلاقة الحميمة حتى الوقت الراهن.

كان موقف جمال عبد الناصر صحيحاً في تبني حركة عدم الانحياز. والحياد مرادف للشيوعية في نظر السياسة الأمريكية. تم التخلص من أعمدة الحركة، سوكارنو في أندونيسيا إثر انقلاب سوهارتو عام ،1965 حين أبيد نحو مليون شخص متهمين بالشيوعية، وفتحت إندونيسيا للنهب الاستعماري.

عملياً لم أكن آنذاك على دراية بهذا الأمر ؛ لكن الجهود الأمريكية للسيطرة على المنطقة ظلت الموضوع الرئيس في سياسة الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي أواخر عقد الأربعينيات قال أ.أ بيرل، أحد المستشارين الرئيسيين للرئيس روزفلت إذا استطعنا السيطرة على الشرق الأوسط نستطيع السيطرة على العالم. ورأت وزارة الخارجية الأمريكية أن الشرق الأوسط هو (المصدر الضخم للقوة الاستراتيجية) و(أعظم جائزة مادية عرفها التاريخ). وكانت تلك المفاهيم الشائعة لدى المخططين الاستراتيجيين في أواخر الأربعينيات.

هل صحيح، كما تقول الدعاية الفلسطينية والعربية عموماً، أن السياسة الأمريكية مناقضة لمصالح الولايات المتحدة ؟ يجيب تشومسكي بالقول، (كل ما عليك عمله التوجه إلى دوائر الشركات الكبرى: جنرال إليكتريك، مورغان تشيز، غرفة التجارة الأمريكية، وول ستريت جورنال، وتشرح لها بأدب أن السياسة الأمريكية المناصرة لإسرائيل تلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة. وليس سراً أن للرأسمال الخاص المتمركز تأثير كبير على سياسات الحكومة بشتى الطرق. وبذا فإن كان اللوبي يجبر الولايات المتحدة على سياسات تناقض مصالح هؤلاء الذين يديرون البلاد فسوف نستطيع إقناعهم. ولسوف يخرجون اللوبي الإسرائيلي من الحلبة في خمس ثوان. صناعة الحرب الأمريكية وحدها تتفوق بأشواط واسعة، وتحتفظ بتأثير أضخم من اللوبي الإسرائيلي على السياسات الأمريكية. فلماذا لم يجرب أحد هذه المحاولة ؟ ذلك أنها ليست سوى نكتة ولا تستحق التداول.

أعتقد أن قطاعات الاقتصاد الكبرى بالولايات المتحدة تجد في السياسات الأمريكية تجاه إسرائيل أمراً مقبولاً. وأسباب ذلك أن إسرائيل مجتمع غني ومتقدم، لديه قطاع تكنولوجي قوي ومتطور مندمج بالاقتصاد الأمريكي ذي التكنولوجيا المتطورة. هو قوي للغاية في الصناعة العسكرية، له ارتباط وثيق بالصناعة العسكرية الأمريكية، وبالسياسة الحربية في حقيقة الأمر. وعندما يقول الرئيس أوباما: سأعطي إسرائيل طائرات إف ،35 فهو بذلك يقدم دعماً قوياً لاحتكار لوكهيد مارتن، دعم مزدوج، إذ عندما يدفع دافع الضرائب لاحتكار لوكهيد ستقدم لإسرائيل طائرات متطورة. والعربية السعودية لا تعارض في أن تتسلم معدات من الدرجة الثانية.

يحدث الآن أن صفقة تسلح ضخمة عقدت مع العربية السعودية قيمتها ستون مليار دولار. وهذا ملائم لإسرائيل، لأن المعدات من الدرجة الثانية تلحق بها أي ضرر. علاوة على ذلك نشأت منذ سنوات علاقة وثيقة بين العسكرية والمخابرات الأمريكية وبين إسرائيل، وقامت الشركات الأمريكية بتشييد مرافق داخل إسرائيل (أنتيل، أضخم مؤسسة لصناعة الرقائق). ويتوجه خبراؤنا العسكريون إلى إسرائيل لدراسة تقنيات الحرب ضد المدنيين.

علينا الإقرار بأن تغيير سياسات حكومة الولايات المتحدة، إذا كان لها أن تتغير، يتطلب الضغط من حركة شعبية جماهيرية تملك من التأثير ما يحولها إلى عنصر بارز في التخطيط السياسي، مثل حركة مناهضة الحرب في عقد الستينيات.

 

انطلاقاً من القناعات المتشكلة في خضم كفاحه ضد حرب فيتنام رصد المثقف الأمريكي البارز قصوراً لدى القيادة الفلسطينية. إذ مقابل التخطيط اليهودي المبرمج ومخاطبة الجمهور، مع حشد وتعبئة المؤثرات الثقافية، فقد اكتفت القيادة الفلسطينية بالحديث عن الثورة العالمية.

لا أعتقد أنهم كانوا مقنعين في خطابهم، غير أنهم تسببوا في مشاكل عدة، ولا أود أن أسبب لهم مزيداً من الإزعاج. في نهاية عقد السبعينيات كان (إد) ينقل لهم الرسائل عندما يفدون إلى نيويورك. وتركزت فكرة إد أن يحملهم على الإصغاء إلى جمهور متعاطف مع الشعب الفلسطيني، لكنه ينتقد سياسات القيادة. كنت حاضراً وكان معنا أليكس إيرليخ، المناهض للصهيونية والبوندي النزيه، مدرس التاريخ الروسي بجامعة كولومبيا. كان اللقاء عديم الفائدة. بمقدورنا الصعود إلى الجناح الخاص بالوفد الفلسطيني في فندق بلازا بنيويورك، ونجلس في هذا المكان الفخم ونصغي إليهم يتحدثون عن كيفية قيادة الحركة الثورية العالمية وأضراب هذا الكلام…

دعني أقدم مثالاً. دوف ييرمي أحد مؤسسي الهاغاناه، عُدَّ بطلاً وطنياً بسبب سجله العسكري المتميز. أرسل إلى لبنان عام 1982 للتعامل مع الأٍسرى، وكتب مذكراته التي فضحت يوميات حرب الأرض المحروقة. اعتقدت أن من الملائم نشرها باللغة الإنجليزية، وطلبت من (ساوث إند بريس) ترجمتها ونشرها. لم تكن دار النشر تملك الأموال الكافية، ولن تتناولها الصحافة بالعرض، ولن يطلع عليها أحد.

طلبت من إدوارد سعيد، وكان على صلة وثيقة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أن يقنع القيادة بتمويل ترجمتها ونشرها. عاد إليَّ مستاءً، وقال إنهم سوف يمولونها إذا حملت الصفحة الأولى إشعاراً بأنها نشرت تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية.

هكذا اعتراني الذهول إزاء عجز القيادة الفلسطينية عن إدراك ما فهمَته كل حركة قومية ثورية، أن عليك عمل شيء ما تستدر من خلاله عطف الشعب الأمريكي. هناك سوء فهم جذري لكيفية عمل المجتمع الديمقراطي. الولايات المتحدة بعيدة عن الديمقراطية الباهرة، لكنها ديمقراطية بهذا القدر أو ذاك، والرأي العام ذو تأثير. والحركة المناهضة للحرب أحدثت فروقاً، وحركات التضامن مع شعوب أمريكا اللاتينية أوجدت فروقاً، إذ قيدت بصورة حادة التدخل العسكري الأمريكي. والقيادة الفلسطينية فشلت في إدراك هذا التأثير. ولو امتلكوا قدراً من الأمانة وقالوا (انظروا، نحن قوميون من حيث الجوهر، ونريد إدارة شؤوننا بأنفسنا، وانتخاب مجالسنا البلدية، وإزاحة الاحتلال عن ظهورنا)، لكان من السهل تنظيم دعم عام، ولحصلوا على قدر كبير من الدعم. ولكن إذا جئت إلى الولايات المتحدة حاملاً الكلاشينكوف لتقول إنك تنظم حركة ثورية عالمية، فهي ليست الطريقة التي بها تستحوذ على دعم الجمهور هنا.

 وبالطبع جرى استغلال هذا القصور وتضخيمه.

تشكلت أحداث عيانية يمكن حيالها القيام بأشياء من شانها المساعدة على تنظيم الدعم للشعب الفلسطيني، وبدلاً من ذلك تقوضت جهود الدعم بسبب تصرفات وأساليب متبعة. كل ما أرادته القيادة بوضوح توجيه دعوة إليها لزيارة البيت الأبيض. إنه تصور مغاير للعمل السياسي، تصور غير ديمقراطي، لا يصدر عن الإقرار بأن صفقة تعقد داخل غرفة خلفية مليئة بالدخان ليست ممارسة سياسية. وإذا ما قدر إحداث تغيير في السياسات الأمريكية فلن يحدث ذلك بدون ضغط شعبي، وهذا لن يتحقق دون كسب عواطف الجمهور.

وفي الحقيقة يجب أن نتذكر أن مقاربة الرد الرسمي الإسرائيلي على بيان إعلان الدولة الفلسطينية انطلقت من مبدأين اثنين:

الأول نص على أن الحكومة الائتلافية المشكلة من شمعون بيريز وإسحاق شامير في أيار 1989 لن تقبل قيام دولة فلسطينية ثانية بين إسرائيل ونهر الأردن (يعني أن شرقي الأردن بإملاء إسرائيلي هي دولة فلسطينية، ولن تقام دولة أخرى).

 أما المبدأ الثاني فيقرر مصير الأراضي المحتلة طبقاً للخطوط العريضة التي ترشد سياسات إسرائيل. وفي الحال صادق وزير الخارجية الأمريكية جورج شولتز على مضمون البيان.

وكتب ناحوم بيرنباع المعلق الإسرائيلي المعروف مقالة ذكر فيها كيف أن رابين التقى بأعضاء حركة السلام الآن وأكد لهم أن عليهم أن لا ينشغلوا بالمفاوضات الجارية، فهي ببساطة خدعة من جانب أصدقائنا الأمريكان تتيح لنا فرصة عام آخر لضمان سحق الفلسطينيين عن طريق القوة، ولسوف يسحقون، قالها رابين. وهذه مجرد فرصة أخرى تتاح لنا كي نمضي قدماً بينما العالم يعتقد أن مفاوضات السلام تمضي قدماً.

أنا لا أحب أبا إيبان، غير أنه قال كلاماً دقيقاً لسوء الحظ: (القيادة الفلسطينية لم تفوت أبداً فرصة تضييع الفرص). كانوا يقومون بالأفعال الصحيحة، لكنهم ينفذونها بطريقة مكنت أعداءهم، إسرائيل والولايات المتحدة،من تحطيمهم في كل منعطف. وهذه أحد أسباب انسحاب إدوارد سعيد من المنظمة وتحوله إلى ناقد مرير لمنظمة التحرير الفلسطينية. وعلي أن أقول إن إقبال أحمد (مثقف أمريكي من أصل باكستاني) عمل الشيء نفسه.

غير أن القيادة الفلسطينية عملت الكثير من الأمور الجيدة. فقد نجحت بالفعل في الإبقاء على حيوية القومية الفلسطينية تحت ظروف جد قاسية، وهذا بحد ذاته إنجاز.. ينبغي الإشارة إلى المفاوضات التي جرت بعد حرب الخليج الثانية، وترأس حيدر عبد الشافي الوفد الفلسطيني المفاوض. كان حازماً وأصر على عدم التوصل إلى اتفاق ما لم يتوقف الاستيطان. بدلاً من ذلك توصلت أطراف أخرى في تونس إلى اتفاق أوسلو الذي اعتقدت فيه القيادة الفلسطينية أملاً عظيماً في المستقبل. إدوارد سعيد وأنا معه، رفضنا بقوة ما بدا أنه الشعور الرئيس لدى الشعب الفلسطيني آنذاك. كلانا، إد وأنا، توصلنا في الحال إلى الاعتقاد بأنه كارثي من شأنه أن يقوض الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

العدد 1104 - 24/4/2024