ثمانية وثمانون عاماً في النضال الوطني

ثمانية وثمانون عاماً من الكفاح الوطني خاضها الشيوعيون السوريون مع كل القوى الوطنية في سبيل استقلال الوطن، وطرد المحتل الأجنبي، ولحماية الفلاح من عسف واضطهاد الإقطاع، ومن أجل حقوق العمال وتنظيم نقاباتهم، ولتحسين الأوضاع المعيشية للجماهير الشعبية في السكن والخبز والتعليم والصحة، ومن أجل سياسات تنموية رشيدة في استثمار خيرات بلادنا الطبيعية والبشرية دون عسف أو استنزاف، ومن أجل العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والديمقراطية، وفي التضامن مع كفاح الشعوب في سبيل التحرر الوطني والتقدم والسلم.

لقد واجه الشيوعيون اضطهاد الحكومات المتعاقبة واستبدادها، والمحاربة في لقمة العيش، والحرمان من حقوقهم في العمل وتكافؤ الفرص، وتعرضهم للتسريح من العمل، والاعتقال والسجون، وافتراءات الرجعية والقوى الظلامية على مواقفهم.

ورغم كل ذلك استمر الشيوعيون دون تردد في نضالهم، مكتفين فقط بشعورهم بالسعادة النضالية فيما يحققونه لشعبهم ووطنهم، وما ينتزعونه من مكاسب للطبقات الكادحة، وما يؤسسون فيه لمستقبل سعيد لوطنهم وشعبهم، وهل بعد هذا ما هو أرفع سمواً من هذه الغيرية؟!

ويتابع الشيوعيون اليوم مسيرتهم، ويطرحون رؤيتهم لخلاص البلاد من الأزمة الرهيبة التي تدمي قلوبهم لما يستباح من دماء الأهل والأبرياء، وما يستنزف من بُنى الوطن وثرواته، وما يهدد استقلاله ووحدته من مخاطر، ويعملون بكل جهد وحرص لإنقاذ الوطن منها، وتهيئة الظروف للانتقال بالبلاد إلى مرحلة السلم والمصالحة، وبناء ا لمجتمع الديمقراطي التعددي التقدمي، وهم يؤكدون أوّلية وقف العنف وسفك الدماء، والحل السياسي من خلال الحوار الوطني الديمقراطي المتكافئ، الذي يحافظ على متابعة دور بلادنا في صف مجابهة السياسات الإمبريالية والصهيونية، والعمل لتحرير الأراضي المحتلة، وتحقيق الحقوق القومية العربية.

إن الشيوعيين السوريين الذين يسترشدون بالماركسية اللينينية يرون ضرورة التغيير والسير قدماً في إجراءات إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي فعلية، لأن علاقات الإنتاج ومجمل البنى الفوقية السائدة في المجتمع غدت لا تتوافق مع ضرورات وحاجات تطور المجتمع، وتعيق تطور قواه المنتجة، ويفترض حل هذه التناقضات بالاستعاضة عن تلك العلاقات والبنى الفوقية بأخرى تفسح المجال لتطور المجتمع وقواه المنتجة.

إن هذه الرؤية تستند إلى تشخيص الحالة الراهنة في الواقع المادي للبلاد. فقد أوقعت السياسات الاقتصادية الليبرالية الانفتاحية المتسرعة والمشبوهة الإنتاج الصناعي الوطني، ودون أي دعم أو حماية، في مزاحمة ومنافسة غير متكافئة مع المنتوجات الصناعية للبلدان الرأسمالية المتقدمة، فواجه صعوبات وخسائر كبيرة، أضعفت قدراته، وأعاقت تطوره، فتوقف بعضه، وفقد آلاف العمال عملهم، وزادت نسب البطالة والفقر.

أما القطاع العام الصناعي الذي أسهمت في نشوئه بحماسة كل القوى الوطنية والتقدمية، وفي مقدمتهم الطبقة العاملة السورية والفنيون الوطنيون التقدميون، وكان له دور بارز في صمود بلادنا، فقد ألمَّت به في العقود الأخيرة سياسة محاربة مقصودة، فجرى إهمال كامل لتجديد آلاته، وعرقلت البيروقراطية مبادراته، وكثرت تدخلات الجهات الوصائية غير الرشيدة في شؤونه، ولم تحاسب إداراته، حتى غدا ينوء تحت عبء الفساد والهدر ورداءة الإنتاج.

وواجهت الصناعة الاستخراجية ظروف مماثلة، منها تفضيل شركات البترول الأجنبية، وجرى تجاهل شعار استثمار البترول وطنياً، وتدخل المتننفذون في منح وتوزيع العقود، وحوصرت الشركة الوطنية في جبهات عمل محددة بدلاً من تطوير قدراتها، ولم تتقدم صناعة التكرير.

وحوصرت الزراعة أيضاً بتشريعات وقوانين أجحفت بحق الفلاحين، وقلصت مجالات دعم الإنتاج وتسويقه أو تصنيعه، إضافة إلى ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من البذار والسماد وحوامل الطاقة.

وليس ما واجهه قطاع الخدمات من صعوبات وفساد أقل من ذلك، فتأخر مثلاً تشغيل الخط الثالث في قطاع الاتصالات الخليوية، ويجري طرحه على الشركات الأجنبية بدلاً من وزارة الاتصالات. واتسعت دائرة العمران العشوائي، وتعثر البدء بمترو دمشق، واتسع التهرب الضريبي والجمركي، واتجه كثير من الأموال لأعمال السمسرة والمضاربات العقارية والريعية، ولا تزال معالجات التلوث البيئي تأخذ أشكالاً احتفالية أكثر منها عملية.

وما أصعب وأثقل أن تسمع مسؤولاً يطيل الوعظ عن ضرورة ضغط النفقات والهدر في استخدام السيارات مثلاً، والسامعون يعرفون أن أسرته ومقربيه يستخدمون عشرات السيارات الحكومية دون وجه حق. والأكثر إيلاماً أن ترى قاضياً فاسداً يفصل المنازعات بين الناس، أو ترى أكاديمياً يبخس العلم والمعرفة ومصير جيل المستقبل بدناءته.

لقد تمكنت الأجهزة الأمنية بجدارة من متابعة ومحاصرة أصحاب الرأي، وغفلت بل تغافلت عن حماية معابر حدود الوطن، فعبرتها مختلف المهربات الخطيرة. وقد نبه حزبنا لمخاطر هذه السياسات، ووضح انعكاساتها على إضعاف صمود البلاد، وزيادة حدة التفاوت الطبقي في توزيع الثروة، وتفاقم صعوبات عيش المواطنين، وازدياد البطالة والفقر والغلاء والفساد، وتدهور أوضاع الفئات المنتجة المتوسطة والصغيرة. وطالب ولا يزال بالعدول عنها، والعودة للسياسات الرشيدة في التخطيط الاقتصادي الاجتماعي، وتطوير دور الدولة التنموي والرعائي.

أي أننا نطالب بتغيير السياسات الداخلية، ولكن نرفض أن يكون ذلك بوساطة التدخل العسكري الخارجي، لأن ذلك يفقد الوطن استقلاله، وهو تفريط بحرية المواطن والوطن معاً، وإعاقة لتطوره وتقدمه وفق إرادة الشعب، وهذا الأمر لا يمكن لأي وطني القبول به، ولذلك نحن نعارض الدعوات الملحاحة لقوى الناتو والولايات المتحدة للتدخل العسكري.

إننا ندرك أنه لا يمكن لأي نظام في عالم اليوم أن يغلق أبواب بلاده جميعاً في وجه العالم، ويمارس العسف على شعبه، ويبقى العالم يتفرج عليه، فعوامل التشابك الدولي اليوم، الإعلامية، والاقتصادية، وقضايا الأمن والسلم الدولي، ورعاية حقوق الإنسان لمختلف مكونات المجتمعات، تجعل من كل مناطق العالم تتأثر وتؤثر بعضها ببعض. ونحن مع ذلك التضامن الأممي الذي يناصر القيم الإنسانية العليا. ولكن هذا شيء، والتدخل العسكري في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى بقصد تغيير أنظمتها بالسلاح وفق رغبات الخارج ومصالحه، شيء آخر نرفضه كلياً.

إن مجابهة القوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية وإنجاز برامج التنمية الوطنية الشاملة تقتضي تضافر جهود كل القوى الوطنية والتقدمية ومشاركتها الفاعلة في إنجاز تلك المهام، بما يؤمن زج كامل طاقات الجماهير الشعبية لتحقيق ذلك. بينما أدى نظام الحزب الواحد، وهيمنة عقلية الأجهزة الأمنية التي تدعم التفرد، إلى تشتت القوى، وتغريب الجماهير، وإبعادها عن الحياة السياسية، وتجميد دورها الوطني، وإقصاء قوى وكوادر وطنية مخلصة وذات كفاءة، وأفسح في المجال للكثير من الانتهازيين والفاسدين، وولد احتقاناً شديداً لدى قوى شعبية تضررت من هذه السياسات.

إن الأمر يحتاج إلى انعطاف وتغيير باتجاه مجتمع ديمقراطي تعددي، وبناء دولة سيادة القانون، وحقوق المواطنة المدنية، وإيجاد تحالف استراتيجي للقوى الاشتراكية والديمقراطية، لتشكل ضامناً للمصالح الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية، ولمقاومة مظاهر الاستبداد والاستغلال والفساد، والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، ولنشر ثقافة التنوير والعقلانية والعلمانية، ولمجابهة التعصب الطائفي واستبداد الفكر الظلامي التكفيري المتخلف، وحماية الوحدة الوطنية والتقدم الاجتماعي.

إن حرية المواطن وكرامته حق مقدس، وتستحق التضحيات من أجلها، وفي كل مرحلة يجب ضمان حرية الرأي، وحق المعارضة السياسية في الوجود، وإقصاء كامل عقلية الإقصاء أو الإلغاء السياسي للقوى السياسية المختلفة، وتمكينها من عرض برا مجها على الجماهير بمختلف وسائل الإعلام، التي يجب أن تكون وسائل إعلام للمجتمع، لا حكراً على السلطات.

إنَّ للشيوعيين تراثاً مجيداً يفخرون به، وهم يدركون أنه لا عمل كاملاً دون أخطاء، ولكنهم على استعداد دائم لتقويم عملهم بروح انتقادية متطلبة، ومتابعة طريق النضال في سبيل الحرية والاشتراكية.

 

عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري (الموحد)

العدد 1104 - 24/4/2024