الثورة والقانون والمرأة

من حيث المبدأ تقف الثورة والقانون في بلد ما على طرفي نقيض، لأن الثورة تقوم عندما يصل المجتمع أو فئة منه إلى قناعة أن التغيير في ظل الأنظمة المرعية والقوانين النافذة في المجتمع لم يعد كافياً أو ممكناً، وأن هيكل النظام القائم في المجتمع لم يعد مقبولاً، ويجب هدم هذا الهيكل من أجل إعادة بنائه على أسس سليمة. وإعادة تنظيم العلاقات والروابط في المجتمع من أجل الانطلاق إلى الأمام. ومن هذا المنطلق لا نتصور أن تقوم ثورة في مجتمع ما وتحترم الأساس القانوني لهذا المجتمع الذي ينظم العلاقات فيه، وإلا كانت مجرد حركة إصلاحية تروم التغيير من داخل النظام القائم. ومن هنا رأى البعض أن التناقض بين الثورة والقانون حتمي ولو لفترة معينة، إلى أن تجد هذه الفئات التي قامت بالثورة أنها حققت التغييرات المطلوبة في الدولة ونظام الحكم وأدوات السلطة فيها، عندئذ تبدأ هذه الفئات في إنشاء منظومتها القانونية التي ستستمد منها شرعيتها القانونية، والتي ستحكم بموجبها المجتمع وفق تصورها ورؤيتها.

وبناء على ذلك، نستطيع أن نحكم على مدى تقدّمية أو رجّعية أي ثورة أو حركة تصل إلى الحكم من خلال رؤيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومدى قربها أو بعدها من مفهوم التقدم الاجتماعي وحقوق الإنسان، حيث الفئات الاجتماعية المختلفة.

وحمل (الربيع العربي) في البلدان التي زارها إلى سدة الحكم الإسلام السياسي ممتطياً عربة الديمقراطية والحرية ومقاومة الظلم والاستبداد والقمع والتسلّط. وعاد نصف المجتمع، الذي شارك بهذا (الربيع) حالماً بحقه في التحصيل العلمي والحماية القانونية من قتل الشرف والعنف الأسري وحقها في العمل واختيار شريك الحياة، بخفي حنين. فلم تنل المرأة إلا الكلام المعسول، بينما بدأت ممارسة الحكومات على أرض الواقع تشي بشيطان بدأ يطل برأسه من بين تفاصيل الدساتير التي ستنظم الحياة في بلدان (الربيع العربي).  فمسوَّدة الدستور المصري جاءت خالية من مواد تجرّم العنف ضد المرأة والتجارة والاتجار بالبشر وزواج القاصرات وتشغيل الأطفال والعنف الأسري ضد المرأة والطفل. مما جعل رئيسة المجلس القومي للمرأة في مصر تقول: (مادام هناك ظلم اجتماعي وثقافة ذكورية في المجتمع المصري، فمن الضروري تضمين الدستور المصري تمييزاً إيجابياً لمصلحة المرأة، كي يحصل التغيير).

فالمرأة التي خرجت تناضل ضد الاستبداد والظلم، وبهرت العالم بحضورها اللافت، مقدّمة للعالم صورة المرأة العربية المثقفة، الواعية، المحرّكة للرأي العام، غير الصورة النمطية في ذهن الغرب للمرأة الشرقية المقموعة الخانعة، التي يسيّرها ولي أمرها (الذي قد يكون ابنها)، المهمّشة والأمّية. سرعان ما اختفى دورها في ظل أنظمة (الربيع العربي). ففي ليبيا هُمّشت النساء في ظل هيمنة القبائل التي بدأت بكم أفواه النساء وتفرض عليها أراءها واتجاهاتها السياسية. وفي تونس بدأت المرأة تخسر مكاسبها التي نالتها منذ فترة ما بعد الاستقلال حتى اللحظات التي سبقت (الربيع العربي) بسبب تزايد نفوذ الجماعات المتطرّفة في الحكومة التونسية. وفي مصر وجدت الجماعات المتنكرة باللباس الديني والتي تطمح للوثوب إلى سُدّة الحكم في براءة الطفولة ما يحقق غايتها تلك. فهذه الجماعات وضعت النساء تحت بند العورات التي تثير الشهوات. وضمّت لهم البنات (التي تقوى على المعاشرة الجنسية)، (فلا سن محدّدة معيّنة لزواج الفتاة ما دامت قادرة على الممارسة الجنسية)، وفق الشيخ ياسر برهامي عضو الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور المصري. كل هذا في سبيل مداعبة غرائز أنصار هذا التيار داخل مصر وخارجها.

قيل: المرأة نصف المجتمع، وما دام هذا النصف مهمّشاً فلا نستطيع أن نتكلم عن نهضة أو عمران في مجتمعنا العربي. فما يحدث الآن على الساحة العربية من فوضى وصراعات مسلّحة تشي بأن منطقتنا تمر بفصل الخريف الذي يسبق الشتاء، وأخشى أن تكون هذه الفترة هي فترة السبات الشتوي لحقوق المرأة ومكتسباتها في مجتمعاتنا الشرقية، على أمل أن يزهر ربيع حقيقي تكون ثماره بناء مجتمع صحيّ وسليم متصالح مع ذاته قادرٍ على إرجاعنا إلى دائرة التاريخ بعد أن قادت تصرفات الجهّال منا إلى وضع فئات كثيرة من مجتمعاتنا خارج نطاق الزمن والحضارة.

العدد 1104 - 24/4/2024