مصر والفرعونيّة الجديدة

في غمرة ما عُرف بالرّبيع العربيّ. كانت مصرُ الدّولةُ العربيّةُ الكبرى، المُنتفضَةُ الثّانيةُ ضدَّ حكم شموليٍّ عميقٍ كرَّس الفساد وقمعَ الحرّيّات على مختلِف أَنواعِها، ولَهَثَ خلفَ الإِثراءِ اللامشروع والبعدِ عن أَيِّ مشروع نهضويٍّ اجتماعيٍّ وثقافيّ.

 كان الحراك الشَّعبيُّ عارِماً، أَطاح بحكومة مبارك ونظام حكمه. ووقف بالمرصاد لِحكومة العسكر التي سيطرتْ على مصرَ فترةً من الزّمن. وأخيراً عبرَ انتخاباتٍ رئاسيَّةٍ، مورسَتْ فيها شتّى أَشكال التّزييف والقمع والإَقصاءِ، واستُخدِمتْ معها أَبشع نماذج البلطجة والتّخوييف والتّرهيب، فاز محمد مرسي مُمثِّلاً لحزب الإخوان المسلمين بِرئاسة جمهوريّة مصر العربيّة.

 أّبداً.. لم يكن محمد مرسي رئيساً للدّولة العربيّة الكبرى. بل كان دُميةً في يد الإِرادة الإخوانيّة والعباءات المُهترِئَة التي تنزف حقداً وكراهية وأَنانيّة، والتي دفعَتْ به لأن يُنصِّبَ نفسَه فرعوناً جديداً لِمصرَ، ودكتاتوراً من طراز جديد.

 تأَبّطَ مرسي الدكتاتوريّةَ ظنّاً منه أنّ لا أَحدَ يحاسبه على إِذلالِ مصر العريقة، وأنّ الحصانة المطلقة التي يتسلحُ بها ستستمرُّ معه مدى الحياة. لقد فتح مرسي بالإعلان الدّستوريّ الذي أصدره بتاريخ 22/ 11/ 2012 شرخاً كبيراً في الحياة المصريّة الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة، وجعل كلّ مرافق الحياة محصورةً في رغبة شراذم من بقايا كهوف الظّلام ومجاهل الفكر الذين عفا عليهم الزّمن. وبذلك قضى على أَغلب مكتسبات الثّورة الشّعبيّة التي أّطلقت شرارتَها الأُولى في 25 كانون الثاني. فتحوَّلَ إلى طاغية يسرق بريق مصر الجديدة. إِنّ ما سُمّيَ بالإعلان الدّستوريّ، ليس إلاّ مقدِّمة لحكمٍ شموليٍّ آخر يُكرِّسُ دمجَ الدّين بالدّولة، أو يُحوِّلُ الدّين إلى دولةٍ، وكأَن مُنظِّري حركة الإخوان المسلمين وغيرهم من أقطاب الرّجعيّة الدّينيّة لم يقرؤوا التّاريخ، بل تناسوا أنّ جميع الدول التي انتهجت فصلَ الدّين عن الدّولة، قد سارت أشواطاً بعيدةً في مضمار التّطوّر الحضاريّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. وأنّ الدّولَ التي أَخضعَتْ الدّولةَ للدّين ظلّت ترسف في قيود التّخلُّف والتّقهقُر الاجتماعي والثّقافيّ والحضاريّ.

لقد قرّر الرّئيس محمد مرسي توسيعَ صلاحيّاته خصوصاً في مجال القضاء، فأَقال وعيّن على هواه تحقيقاً لِرغبات دكتاتوريّة الإخوان المسلمين. إلاّ أنّ الحراك الشّعبيّ والمعارضةَ السّلميّة رفضت هذه القرارات وندَّدت بها، مُعلنةً أنّ مرسي يُنصِّبُ نفسَه حاكماً بأَمر اللّه، وأنّه لا يضع مصر العظيمة رهن مصالح شعبها ويدفعها في طريق التّطوُّر المستقبليّ، بل يُخضِعها لنير حكمٍ فرديّ دينيٍّ متطرِّف. وقد عبَّر عن ذلك رئيسُ نادي قُضاة مصر أحمد الزّند بقولِه: (إنّ الإعلان الدّستوريَّ الذي أصدرته جماعة الإخوان المسلمين، ما هو إلاّ إجهازٌ على مصرَ الدّولة واعتداءٌ على سيادة القانون فيها واستقلال القضاء. كما أنّه ينطوي على مساس بمقدَّسات الشّعب وطموحه نحو حياةٍ ومستقبل أَفضل).

 هذا الواقع المتأَزّم، دعا الأَحزابَ المصريّة وجميع الحركات القوميّة والماركسيّة واليساريّة والليبراليّة إلى التّلاحم من جديد لإحياء مليونيّة تسعى بإصرار لِرفض قرارات مرسي ولجم إرادة السّيطرة الإخوانيّة على مرافق الحياة المصريّة، انطلاقاً من أنّ إجراءات مرسي ما هي إلاّ حركة انقلابيّة ضدّ الدُّستور وطموح الجماهير المصريّة نحو بناء مصر الحديثة.

 لقد أصدرتْ جبهةُ الإنقاذ الوطنيّ المكوّنة من تحالف خمسة عشر حزباً وقوى سياسيّة أخرى، بياناً دعتْ فيه إلى تنظيم مسيرات حاشدة للإعراب عن رفض الشّعب المصريّ لِهذا الإعلان الدّستوريّ، مطالبة بإسقاط الإعلان وإعادة هيكلة الحكومة.

 إذن.. في مصر الآن صراعٌ بين أصحاب الثورة الحقيقيّين ممثّلين بالشّريحة العريضة من فقراء مصر ومثقّفيها وعمّالها وطلاّبها وبعض كبار السّاسة فيها من جهة، وتُجّارِ الدّين الّذين يتّخذون من الدّين ستارةً رماديّةً يحتمون وراءَها في مواجهة كلِّ عناصر التّقدُّم الحضاريِّ. أَصحابُ الثّورة يُطالبون بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة وتكافُؤ الفرص. وتجّارُ الأديان يلهثون وراءَ تحقيق مكاسب شخصيّة ومناصب سياسيّة ويردّدون شعارات تجاوزَها التّاريخُ ولفظتْها الحياة، مُتناسين أنّ الشّعوبَ تعيش حاليّاً عالمَ الإنترنت وغزو الفضاء وال (جي بي إس). يحلمون بعودة الخلافة وتطبيق الشّريعة من خلال رؤيةٍ مريضةٍ للدّين والشّرع والقوانين. إذن هو صِراعٌ بين رؤْيتين متناقضتين. رؤية تحاول إعادة التّاريخ إلى الوراء من خلال التّدثُّر بالعباءات المُهترِئة والاحتماء خلف فتاوى زائِفة. ورؤية ترسمُ خطَّها البيانيَّ نحو التّصاعد الحضاريِّ والكرامة الإنسانيّة.

 صحيحٌ أنّ مرسي كممثِّلٍ للإخوان المسلمين، قد وصل إلى سُدّة الرِّئاسة عبر انتخاباتٍ رئاسيّة. ولكنّ القاصي والدّاني يعلم أنّ ذلك كان عبر تزييفٍ علنيّ يتحدّى الكرامة الإنسانيّة. فقد مُنع الكثيرون من الأَقليّات وأبناء الأرياف وسكّان الأحياء من الوصول إلى صناديق الاقتراع. كما أنّ استدرار المشاعر الدّينيّة السّاذجة كان مفتاحاً أساساً للوصول إلى قناعة النّاخبين. إنّ مرسي ليس رئيساً لِمصر الجغرافية والتّاريخ والمجتمع، بل هو ورقةٌ في روزنامة التّحجُّر والانغلاق الدّينيّ والعودة بالحياة والمجتمع إلى الوراء. إنّ حركة الإخوان المسلمين منذُ بدءِ تكوُّنها مع حسن البنّا ومروراً بسيّد قطب وعبداللّه عزّام وكثيرين غيرهم، حتّى اعتلاء محمد مرسي سدّة الرِّئاسة، لا يتوانونَ عن الإمساك بتلابيب المجتمع، وكبح جماحه نحو التّطوُّر. وفي سبيل ذلك فإنّ الحركة الإخوانيّة تظلُّ تتدثّرُ بملابس زاهية مُخادعة، فهي تارةً (حزبُ العدالة والحريّة) وأُخرى (حزب النّهضة) و(حزبُ العدالة والتّنمية). وهم في واقع الحال لا يمتّوُن لِهذه الأَسماء بِصِلة.

 لقد تحوَّل مرسي بسرعة البرق إلى طاغيةً يبيعُ مصالح شعب مصرَ كما يحلو لِمجلسِ مستشاري حزب الإخوان المسلمين. الأمرُ الذي فجّر غضباً جماهيريّاً شاملاً في الشّارع المصريّ لم ولن يقبلَ أن تُهدَرَ كرامتُه ومستقبله على أيدي جلاّديه.   للشّعب المصريّ تجربةٌ سابقة ومريرة مع حركة الإخوان إبّان فترة الاحتلال البريطانيّ. إذ رفضَ الشّعب المصريُّ أن تُباعَ أرضُه للمستعمرين، فاستغلَّ الإخوان ذلك الموقف واستبدّوا بالسُّلطة. واليوم يقع مرسي في الهاوية ذاتها ويتكرَّرُ الخطأُ ذاتُه ولكن بأُسلوب جديد، إذ يخطفُ مرسي السّلطة ويقبضُ على الحياة ويحاولُ لجمَها عن التّطوُّر والإبداع، عبر أساليب متعدِّدة منها الاستفتاء على الدّستور، والاستعانة بالجيش، واعتماد الحلّ القمعي. لكنّ الثّوّارَ الجدُد لن تنطفئَ شعلتُهم قبل أن يستعيدوا ما سُلبَ منهم، وسيأْتي يومٌ لن ينفع فيه أيّ دكتاتور أن يسلب الحياة ضِياءَها باسم الدّين والمتاجرة بشعاراته. وشعبُ مصر لن يُسْلم قيادَه لأصحاب الأفكار الغارقة في ظلام التّخلُّف والمعادية لِروح الحضارة. لأِنّ مثلَ هؤلاءِ عاجزين عن صنعِ المستقبل وبناء حياة أفضل. إنّ مظاهر الثّورة ضدّ دكتاتوريّة الإخوان المسلمين، ليستْ فقط في الشّارع المصريّ، بل هي ثورة ثقافيّة إعلاميّة تتجلىّ في احتجاب كبريات الصُّحف عن الظّهور، وتوقُّف العديد من المحطّات التِّلفزيونيّة عن البثّ. كلُّ ذلك تحت شعار مُوحَّد : لا للدّكتاتوريّة.. لا لِدستور يكبّلُ الحرِّيّات.. لا للإخوان المسلمين!

العدد 1104 - 24/4/2024