الماركسية والمسألة القومية (2من2)

لقد مر تطور القضية القومية بمرحلتين:

1- المرحلة التقدمية: وهي التي توجهت فيها الحركة القومية توجهاً اقتصادياً باتجاه تحطيم العلاقات الاقتصادية الإقطاعية القديمة، المعرقلة لتطور القوى المنتجة، وإحلال علاقات أكثر تقدماً أي الرأسمالية، وسياسياً باتجاه تحطيم الحدود بين الإمارات الإقطاعية وإنشاء الدول اللامركزية على أساس من الاقتصاد الموحد أي بإنشاء الدول القومية.

2- المرحلة الرجعية: التي نضج فيها تطور الرأسمالية وتبلورت تناقضاتها الطبقية الاجتماعية وبرزت الطبقة العاملة كقوة اجتماعية بديلة للطبقة البرجوازية. عندئذ أصبحت البرجوازية في وضع تستغل فيه الأمة القومية لطمس النضال الطبقي، ولإظهارها النضال الطبقي مقسماً للأمة مهدداً لكيانها. وتصبح القومية بذلك والمصالح العليا للأمة هي مصالح الطبقة المسيطرة، أي البرجوازية. هذا وجه من أوجه رجعية القومية في مرحلة بروز تناقضات الرأسمالية. بيد أن لهذه الرجعية وجهاً آخر أيضاً، فالرأسمالية في مرحلة معينة من تطورها لمْ تعد تكفيها الأطر القومية الداخلية، إذ إن هذه الأطر لمْ تستوعب المستوى الذي بلغه تطور القوى المنتجة كماً ونوعاً، فتنعكس هذه الضرورة الموضوعية في تطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية على القضية القومية وعلى العلاقة بين القوميات على الصعيد الإيديولوجي السياسي، بالنزعة الكوسموبوليتية. فإلى جانب عملية استثمار الشعوب اقتصادياً في مرحلة تقاسم مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي فيما بين الدول الإمبريالية باسم مجد الأمة والقومية ومصالحها العليا، أدت علاقات الإمبريالية بهذه الشعوب المستقرة إلى إعاقة تطور ونضوج تشكلها كقوميات، كما مورست ضدها سياسة التذويب القومي وسياسة تدمير الخصائص القومية التي بدأت بالتكوُّن.

 نستنتج من ذلك أنه ما دامت البرجوازية تقدمية وهي على رأس الأمة يكون الاتجاه العام للظاهرة القومية تقدمياً، وعندما تنحدر البرجوازية إلى طريق الرجعية داخلياً وخارجياً تصبح تلك الظاهرة رجعية. من هنا جاءت إشارات ماركس ولينين أنهُ عند تحديدنا لطابع أية قومية ينبغي أن نرى إلى أي مدى سيطرت البرجوازية داخل القومية، والمرحلة التي بلغتها البرجوازية في تطورها.

 

التعصب القومي (أيديولوجياً)

هو سياسة برجوازية معادية للبروليتاريا، تستهدف توطيد السيطرة وامتيازات الأمة على حساب أمة أخرى، ترفض التعاون الأخوي والمساعدة المتبادلة بين الأمم، تشعر بالعداء القومي والكره العرقي المستمد من طبيعة النظام البرجوازي وعلاقات الملكية الخاصة والاستغلال بهدف حرف الشغيلة عن نضالهم الطبقي ضد مُضطهِديهم إلى طريق العداء القومي. إن التعصب القومي البرجوازي يفرق بين العمال على أساس قومي، سواء في الدولة العظمى أم في الأمة المضطهَدة، ويعادي الطبقة العاملة وأهدافها الثورية التي يمكن أن تتحقق عبر توحيد الشغيلة من جميع الأمم، وانتهاج سياسة الأممية البروليتارية.

 من هنا تأتي أهمية الكفاح ضد التعصب القومي، خاصة في الظروف الراهنة. فقد أظهرت التجربة الفعلية أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين تشويهات المحرفين والانحرافات القومية. فالمحرفون إذ يخرجون عن نظرية الماركسية اللينينية فإنهم يضمون الثغرات التي تتسلل عبرها الأيديولوجيا القومية للبرجوازية الصغيرة إلى الحركة الثورية. ومن جهة أخرى فإن الانحراف عن واقع الأممية البروليتارية إلى مستنقع التعصب القومي يتيح مجالاً واسعاً لنشاط العناصر التحريفية بضديها اليميني واليساري. كما أنهُ العدو المجمل للحركة الثورية المعادية للإمبريالية.

 وليس من باب المصادفة أن تعلق عليه البرجوازية الاحتكارية آمالاً كباراً، إذ يزعم مفكرو البرجوازية أن عصر الثورات البروليتارية قد ولَّى، وحلَّ محله عصر القومية الضيقة التي يزعمون أنها تطغى على الاشتراكية في كل مكان. كما أشار لينين إلى الشر الذي ينطوي عليه التعصب القومي. ومن المهم ألا ننسى أن هناك في الأوضاع الراهنة أسباباً موضوعية محددة ساعدت على إحيائه وتقدمه. فالتعصب القومي يحاول الاستفادة من تطورات تقدمية، مثل النمو السريع للوعي الوطني لدى الشعوب، ودخول أعداد غفيرة من الناس الميدان السياسي دون أن تنضج المصالح الطبقية لدى نسبة لا يستهان بها منهم. وهذا ما حدث تماماً أواخر القرن العشرين عند بدأ الهجوم الشرس على الاتحاد السوفيتي قبل انهيارهِ. وأن يستغل قومياته بأن النضال العصري هو نضال القوميات، وكأن الرأسمالية هي أم القومية ومنقذها من الضياع. مما فسح المجال أمام البرجوازية الإمبريالية لاستغلال هذه الموجة أشد استغلال في كفاحها ضد الاشتراكية والحركة الشيوعية. وكأن شعار (يا عمال العالم اتحدوا) هو إنكار الوطن والأمة والانتماء القومي. لا بل على العكس تماماً إن شعار (يا عمال العالم اتحدوا) يعني: أن عمال جميع البلدان على اختلاف قومياتهم ولغاتهم وعاداتهم وعلى تباين الظروف التي يعيشونها في أوطانهم لهم مصلحة مشتركة في انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وبالتالي لهم مصلحة بالتضامن والتعاون على انتصار الثورة الاشتراكية في كل بلد من بلدانهم.

 فإذا كانت الرأسمالية غايتها حشد القوى وتأمين الشروط لانتصار استراتيجياتها تكتيكياً، فإن الماركسيين اللينينيين يهتمون بالقضية الوطنية وقضية الأمة والقومية. ولا يمكن أن يكون موقفاً تكتيكياً أو مرحلياً قصيراً أو عابراً في نشاطهم. بل إذا كانت الاستراتيجية تعني مجموع المواقف والشروط اللازمة لانتصار الثورة في مرحلة من مراحلها للانتقال إلى مرحلة أخرى أرقى وأعلى، فإن الاهتمام بالقضية الوطنية قضية الأمة والقومية ليس موقفاً استراتيجياً من الماركسيين اللينينيين، بل هو أشمل وأعمق وأوسع مدى بكثير. لأنهم لا يوافقون على أن الأمة وما يرتبط بمفهومها من وطن وقومية قد بدأت مع الرأسمالية، فهو بالتالي سيزول بزوالها. لأن الأمة ليست وليدة الرأسمالية ولا من صنع البرجوازية. الأمة وما يرتبط بها من مفاهيم وأصناف هي وليدة تطور طويل بدأ قبل الرأسمالية، وسيبقى بعد انهيارها. والجماهير الشعبية هي التي لعبت دائماً الدور الأساسي في هذا التطور في جميع مراحله.

صحيح أن الرأسمالية كنظام اجتماعي بتوطيدها السوق الداخلية وبتوزيعها العمل بين مختلف مناطق البلاد ساهمت في تكوين الأمة وصهرها، غير أن الاشتراكية لم توقف هذا التطور ولمْ تقطع هذه العملية، بل هي تزيد في صهر الأمة بإزالة التناقضات تدريجياً من صفوفها، أي برفعها إلى مستوى أعلى وأرقى. ولذلك فالقضاء شرعياً على الرأسمالية وانتصار الاشتراكية الحتمي ليس بداية عملية القضاء على الأمة والقومية، كما يزعم بعض خصوم الاشتراكية، بل التجربة برهنت عكس ذلك. ففي الاتحاد السوفيتي قبل انهيارهِ أحيت الاشتراكية أمماً وقوميات كان مكتوباً عليها الاندثار والزوال في ظل النظام الرأسمالي الإقطاعي القيصري فيما لو أن انتصار الثورة الاشتراكية لا يعني كما يفهمهُ البعض هو بدء عملية انتهاء الوطن والأمة. كما أن بناء النظام الاشتراكي أي انتهاء النضال الطبقي في قلب الأمة لا يعني كذلك بدء نهاية الأمة، بل بالعكس يدخل بها مرحلة أعلى من التطور والازدهار ويعطيها محتوى اشتراكياً.

إن تعاليم الماركسية اللينينية تعلم الشيوعيين أن عليهم أن يعملوا ويناضلوا في نطاق الأمة، وذلك ليس في ظل الرأسمالية فقط وليس خلال المرحلة الانتقالية إلى الاشتراكية على النطاق العالمي أيضاً. ذلك لأن الحدود والفروق بين الأمم والقوميات سوف تدوم زمناً طويلاً لا يمكن تحديد مداها حتى بعد الانتصار العالمي للاشتراكية، كما يؤكد لينين.

ومن نتائج بقاء الفروق القومية مدة طويلة أنه سيبقى أيضاً خلال مدة طويلة أرضية مناسبة لبقايا القومية الضيقة والشوفينية. ولكن انتصار الثورة الاشتراكية يخلق في الوقت نفسه إمكانات أوسع وأنسب للنضال ضد هذه البقايا. هكذا نرى أنه خلال مدة طويلة ستبقى الأمة والقومية الإطار الذي يعمل ضمنه الشيوعيون وبالتالي ستبقى أمامهم خلال مدة طويلة مهمة مزدوجة هي:

 أولاً: أخذ مقتضيات هذا الإطار بالحسبان ومراعاتها.

 وثانياً: النضال المستمر ضد أخطار الأنانية القومية والشوفينية التي لا بد أن تبقى بشكل ما وإلى حد ما نتيجة وجود هذا الإطار.  

 

المراجع:

مجلة الطريق: فؤاد الشمالي

القاموس السياسي: عبد الرزاق الصافي

وثائق المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري

العدد 1104 - 24/4/2024