صديقتي الوفية

يبدو أن الأغلبية من أصدقاء الحرف وسدنة الكلمة وعشاق اللفظة الجميلة الرشيقة الباهرة، هم مدمنو تبغ وقهوة وشاي.. وأجزم أن بعض الصحفيين الذين توطدت عراهم بالمادة المطبوعة، لهم طقوس خاصة للتعبير والكتابة والتفكير.

فلابد من أوراق ممزقة هنا وهناك، وضوء ساطع ينير حبر المفردات، إضافة إلى منفضة تغص بالسجائر المطفأة وكوب من الشاي الساخن الأحمر الذي يشبه دم الرعاف، أو قهوة تنشط الذهن، وتستثير الأفكار وتستدعي الخواطر وتحرض القلم الكسول.

أقول هذا، لأنني منذ عشرين عاماً، تربطني صداقة جد حميمة مع السيجارة التي ما كرهتني يوماً، ولا استشاطت غضباً مني، مع أنني أحرقها بمتعة، وأنفث سحبها راسماً لوحة بوح وتوق، وأشواق لا تنتهي، وأرمي رفاتها رماداً في صحن زجاجي، ما رأيته إلا مزدحماً.

هذه الصديقة الوفية التي ما عرفت عنها خيانة قط، أصبحت أفتقدها، وأبحث عنها، فلا أجدها.. لقد تبدى جشع تجار الدخان وطمعهم، وكشروا عن أنياب الشر والشره دون حياء أو وجل.

أفتش عنها، وهي الناعمة المنمنمة الهفهافة، لأني في شوق إليها، وأحس بالغربة وعدم الاتزان لفراقها. أجدها حيناً، فأدفع مهرها مني عندما يقول: هذه آخر علبة تبغ من صنفك الفاخر، ادخرتها لك، لأنني أعلم حاجتك إليها وولعك بها، فأرسم ابتسامة صفراء وأقول في سريرتي: تباً ليوم أصبحت فيه السيجارة التي تحمل السم الزعاف والنيكوتين القاتل مادة نادرة، ألوب عليها: سائلاً، مترجياً، متوسلاً بضعف ثمنها!

وأخيراً أعترف أنني متيقن من ضررها، وأعرف أذيتها، وأقدر سُمِّيتها، لكنني عندما بدأت بكتابة هذه المادة، أشعلت سيجارة بفرح، فبدأت الكلمات تنداح والحروف تترى!

العدد 1105 - 01/5/2024