الماركسية والمسألة القومية (1من2)

عُرف عن الإنسان بأنه كائن اجتماعي لا يستطيع العيش إلا ضمن مجموعة بشرية معينة، وإن هذه المجموعات البشرية تتخذ شكلها المعين في كل مرحلة تاريخية بصورة أساسية بحسب تطور القوى المنتجة، وبحسب مستوى تقسيم العمل الاجتماعي، وبحسب تبادل المستوى المتدني جداً للقوى المنتجة في ظل المشاعة البدائية هو الذي حتم سيادة علاقة المساواة علاقة وحيدة في تلك المرحلة. إذ إن خرقها كان يعني آنذاك موت المجتمع البشري. وتكونت المجتمعات في تلك المرحلة على أساس صلة الدم والقرابة (إما بحسب الأمومة أو بحسب البيوت الأبوية الموسعة). في حين أن تطور القوى المنتجة إلى درجة إعطاء فائض في الإنتاج ولو جزئي شغل القاعدة المادية لضرب مبدأ المساواة (كشرط وحيد للعلاقة في الشيوعية البدائية). وقسم المجتمع البشري إلى عبيد وأسياد محدداً هذا الشكل الأساسي للتقسيمات الاجتماعية البشرية.

إن حدوث هذا الانقسام الأساسي في مرحلة العبودية إلى عبيد وأسياد ترك أثره مباشرة حتى على الانتسابات الدموية في مرحلة الشيوعية البدائية. مثلاً: كان أي إنسان، يتزوج أي إنسانة، في حين أن هذه الصلة تحددت في العبودية: الأسياد يتزاوجون ضمن طبقتهم، والعبيد ضمن طبقتهم. ويعني هذا أن مستوى تطور القوى المنتجة وطبيعة الانقسام الطبقي الذي تحدد بهِ يحدد أيضاً شكل وطابع التجمعات البشرية. وكلما تطورت القوى المنتجة وتقسيم العمل ازدادت التعقيدات في العلاقات الاجتماعية. ففي العبودية وحتى في المراحل العليا من المشاعية البدائية عرف الناس الزراعة، وبدأ  تدجين الحيوانات، مما أدى إلى الاستقرار في الأرض. كما أن ذلك بحد ذاته كان سبباً في زيادة تقسيم العمل. وتطور على هذا الأساس التبادل بين الناس. كل ذلك دفع إلى تطور الصلات فيما بين الناس.

 وفي ظل النظام الإقطاعي برز تقسيم العمل أكثر تخصصاً التطور في الحرف والتقسيمات داخل القطاع الزراعي، ازداد بالتالي التعقيد في أشكال التبادل كما تطورت وازدادت أيضاً ضرورات الصلة عن طريق التبادل وانعكاس ذلك على تطور اللغة. فالمقصود من هذا العرض كلهُ أنه خلال تطور التجمعات البشرية من المشاعية إلى العبودية والإقطاعية كانت تخلق روابط اجتماعية بين البشر نتيجة تقسيم العمل. وإن هذه الروابط على مر الزمن تنتج ثقافة معينة معدة على ذلك المستوى والتقسيم والتبادل، وتعكس إلى هذا الحد أو ذاك مجمل الحياة الاجتماعية. والمستوى الفني في هذه المجتمعات إنما يلاحظ أيضاً أنهُ برغم التطور الحاصل في تقسيم العمل والتبادل مع الإقطاعية ظل الاقتصاد يتصف بسمة أساسية سمة الاكتفاء الذاتي في بقعة من الأرض ضيقة نسبياً ضمن قطاعات محدودة. ومع أواخر الإقطاعية قفزت القوى المنتجة إلى درجة من التطور لمْ يعد معها شروط الإقطاعية المكانية بمعنى أنها لمْ تعد تسمح بتطور هذه القوى، فكان لابد من تجاوز العلاقات الإقطاعية ومحدوديتها لفسح المجال أمام تطور القوى المنتجة، وهذه هي مرحلة الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية.

السمة الأساسية للرأسمالية من وجهة نظر أشكال وسمات التجمعات البشرية هي إخراج الإنتاج والتبادل من نطاقهِ الضيق، نطاق الاقتصاد الطبيعي الاكتفائي، وجعله في أوسع نطاق ممكن ليطول ويشمل مجموعات بشرية أوسع مما كان يطولها الاقتصاد الإقطاعي. ومن هنا ضرورة القضاء على الحواجز الاقتصادية والسياسية التي كانت تفصل الجماعات والمناطق، أو من جهة أخرى فإن تطور القوى المنتجة  في ظل الرأسمالية وصل بالإنتاج إلى درجة متطورة جداً من حيث تقسيم العمل بين الناس والاختصاصات والفروع، بحيث أن كل فرع بات ضرورياً وشرطاً لاستمرار الفروع الأخرى من الإنتاج. وبتعبير آخر إن تطور القوى المنتجة الرأسمالية أدى إلى ترابط بين المنتجين جعل من هذا الترابط المتبادل فيما بينهم شرطاً لاستمرار وتطور الإنتاج في المجتمع. وهذه الشرطية لكل فرع من فروع الاقتصاد وللفروع الأخرى هي ما يسمى بالرابطة الاقتصادية أو الوحدة الاقتصادية. ويوضح هذا العرض لمرحلة تطور الأنظمة الاجتماعية  من المشاعية الأولى حتى الإقطاعية أن قوى الإنتاج وتقسيم العمل ساعد على إيجاد كل نظام من هذه الأنظمة. فنشوء النظام الرأسمالي الذي يحتاج إلى توسيع العمل والتبادل أدى إلى إزالة الحواجز الإقطاعية محققاً بذلك الانتقال الذي نتج نتيجة زيادة قوى الإنتاج.

 

نشوء الأمة

عبر تطور الإنتاج من المشاعية إلى العبودية إلى الإقطاعية ارتبط الإنسان إلى حد كبير بأرض واحدة ولغة واحدة، إذ تطورت مع تطور تجمعاتهم وكشفهم لأسرار الطبيعة، كما تطورت بذلك ثقافة موحدة لهم. وفي ظل الرأسمالية اكتمل شرط آخر هو الوحدة الاقتصادية، مكملاً بذلك العناصر المكونة للأمة. ولا يعود كافياً أخذ عنصر واحد من تلك العناصر والحواجز الاقتصادية، بل يجب أن تؤخذ تلك العناصر مجتمعة لتشكل الأمة (الأرض واللغة والثقافة والوحدة الاقتصادية).

في ظل الرأسمالية اكتمل شرط آخر وهو الوحدة الاقتصادية، مكملاً بذلك شروط وجود الأمة. وهنا يطرح سؤال نفسهُ: هل الأمة وليد الرأسمالية؟

 إن هذا الفهم يؤدي إلى تقويض المفاهيم البرجوازية والبرجوازية الصغيرة من أزلية الأمة ليثبت أن الأمة هي وليدة عملية اجتماعية. أي إن الأمة ظاهرة اجتماعية ولدت نتيجة تطور اجتماعي تاريخي محدد، ولا يعود كافياً أخذ عنصر واحد من تلك العناصر الأربع التي هي الأرض واللغة والثقافة والوحدة الاقتصادية، بل يجب أن تؤخذ تلك العناصر مجتمعة لتشكل الأمة. كما يجب أن ندرك أن الأمة ليست حاصل تجميع حسابي لمجموعة من القبائل، إذ إن مثل هذا التجميع لا يكون الشرط الضروري في الوحدة الاقتصادية. فوجود القبائل يعكس واقع تدني مستوى القوى المنتجة، وتدني مستوى تقسيم العمل والتبادل. أي إن القبائل تقوم إذاً على قاعدة ما قبل الرأسمالية. لذا فإن هذا التجمع لا يشكل الأمة، وإن كانت قد تكونت في القبائل بعض العناصر التي تتشكل منها الأمة، كاللغة والأساطير. لكن الشكل الجديد للتجمع البشري الذي رافق تطور وسيادة أسلوب الإنتاج الرأسمالي، والذي يطلق عليه اسم الأمة، قد جرى تاريخياً تحت قيادة البرجوازية، وأن الاتجاه العام لتطور هذه العملية الذي يتفق مع مصلحة البرجوازية ظهر في الميدان الفكري على أنه تعبير عن مصالح الأمة كلها.

العدد 1104 - 24/4/2024