اللامساواة والاقتصاد العالمي… التقدمية الحقيقية

مع نهاية القرن التاسع عشر، أحدث العصر الأول من العولمة وحجم كبير من الاختراعات الجديدة تحولاً في الاقتصاد العالمي. لكن (العصر الذهبي) كان أيضاً عصراً يتصف بعدم المساواة على نطاق واسع، إذ كان ناهبو أمريكا من كبار التجار ورجال الأعمال المسيطرين على الاقتصاد، وطبقات أرستقراطيي (داون تاون أبي) في أوربا يكدسون ثروات ضخمة. يعود تاريخ مفهوم (الاستهلاك الاستعراضي الفاقع) إلى العام 1899. وقد أنتجت الفجوة المتسعة بين الغني والفقير (والخوف من ثورة اشتراكية) موجة من الإصلاحات، بدءاً من إلغاء الودائع في عهد (تيودور روزفلت)، إلى موازنة الشعب في عهد (لويد جورج). راحت الحكومات بعد ذلك تروّج للمنافسة، وتطرح فكرة الضريبة التصاعدية، وتخيط الخطوط الأولى لشبكة الضمان الاجتماعي. وكان الهدف من هذه (الحقبة التقدمية) الجديدة، كما عُرِفتْ في أمريكا، جعل المجتمع أكثر عدالةً من دون خفض زخم ريادة الأعمال أو النشاط الاقتصادي بشكل عام. وتحتاج السياسات الحديثة، في الواقع، إلى المرور بإعادة ابتكار مشابهة – إذا كانت تريد ايجاد وسائل تقلل من عدم المساواة، من دون إلحاق الضرر بالنمو الاقتصادي. ويقع هذا المأزق أصلاً في صلب الجدل السياسي، لكنه يفرز، في معظم الأحيان، حرارةً، لا ضوءاً.

وهكذا رأينا اليسار، في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، يهاجم المرشح (ميت رومني) بوصفه بارون سرقة، واليمين يسخر من باراك أوباما باعتباره (مناضلاً طبقياً). وفي بعض البلدان الأوربية، استسلم السياسيون ببساطة للجماهير: انظر إلى اقتراح (فرانسوا هولاند) القاضي بخفض معدل ضريبة الدخل بنسبة 75 بالمئة. وفي كثير من دول العالم الصاعد يفضل القادة وضع قضية عدم المساواة تحت السجادة: ولك في ذلك أن تنظر إلى حرج الصين العصبي بسبب تجاوزات المترفين من سائقي سيارات (الفراري)، أو رفض الهند لمسألة معالجة الفساد. في الأصل، ثمة فشل في الجانب النظري والفكري: فاليمين لا يزال مقتنعاً بأن عدم المساواة مسألة غير هامة أو مؤثرة. واليسار لديه موقف ثابت يتمثل في رفع معدلات ضريبة الدخل على الأغنياء وزيادة الإنفاق أكثر -وهو موقف غير مناسب للاقتصاديات الراكدة التي تحتاج إلى اجتذاب الاستثمارات، ولا إلى الحكومات، التي صارت أصلاً أكبر بكثير مما استطاع (روزفلت) و(لويد جورج) تصوره، حين تكون مثقلة الكاهل بوعود تقديم المساعدات المستقبلية. ولذلك فقد باتت الحاجة ماسة إلى إعادة تفكير أكثر درامية بكثير: ولنسمه (التقدمية الحقيقية).

 

أن تملك أو لا تملك

هل قضية عدم المساواة تحتاج حقاً إلى المعالجة؟ في الواقع، تمكنت القوتان التوءمتان من العولمة والإبداع التقني تضييق فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي، وذلك مع التحاق البلدان الأفقر بتلك الغنية. لكن الحاصل هو أن فجوات الدخل قد اتسعت في العديد من البلدان. يعيش أكثر من ثلثي سكان العالم في بلدان شهدت فوارق الدخل فيها ارتفاعاً منذ العام ،1980 وغالباً إلى درجة مذهلة. وفي الولايات المتحدة، ارتفعت حصة الدخل القومي التي تذهب إلى طبقة الـ 01,0 بالمئة من المجتمع (أي نحو 16 ألف عائلة) من 1 بالمئة فقط في عام 1980 إلى نحو 5  بالمئة اليوم، و هي  شريحة أكبر مما كانت تحصل عليه شريحة الـ 01,0 بالمئة العليا في العصر الذهبي. يرى البعض أن مقداراً ما من عدم المساواة قد يكون جيداً بالنسبة للاقتصاد، لأنه يشحذ المحفزات للعمل باجتهاد وللإقدام على المجازفة، وهو يكافئ المبتكرين الموهوبين الذين يدفعون الاقتصاد نحو التقدم. ولطالما قبل رواد التجارة الحرة حقيقة أنه كلما كانت السوق كونية، كانت مكافآت الفائزين أكبر. لكن، وكما يورد تقريرنا الخاص لهذا الأسبوع، فقد وصلت اللامساواة إلى مرحلة باتت فيها غير كفأة وسيئة بالنسبة للنمو.

وهذا ما يتجلى بصورة أوضح في العالم الصاعد، ففي الصين، يقتصر الائتمان على المؤسسات العامة، وعلى الدخلاء ذوي العلاقات الجيدة، كما تكسب النخبة أيضاً من سلسلة من الاحتكارات. وفي روسيا، تكون لثروة الأوليغارشيين صلة أقل مع نزعة ريادة الأعمال، وهو ما ينسحب على الوضع في الهند في أغلب الأوقات.

وفي العالم الثري، تكون محاباة الأصدقاء مختبئة بصورة جيدة. ولعل أحد الأسباب التي تجعل (وول ستريت) مسؤولة عن قسم غير متكافئ من الثروة، يكمن في المساعدات المخفية التي تمنح للمصارف التي هي من الحجم الذي لا يُسمح لها بأن تفشل. ثم هناك التحويل الجائر للإنفاق على الرفاه (السيئ التوجيه/ لجهة من يمكن أن يشملهم هذا الرفاه). وفي أغلب الحالات، تكون صلة الإنفاق المجتمعي بمساعدة الفقراء أقل من تلك المتعلقة بمنح العطايا للأثرياء نسبياً. ففي الولايات المتحدة، تعد مساعدات الإسكان التي تمنح للخمس الأكثر ثراءً (من خلال الإعفاء من فوائد الرهن العقاري) أربعة أضعاف حجم المبلغ الذي ينفق على الإسكان العام للخُمس الأكثر فقراً.

هذا النمط من عدم المساواة الذي تفرزه (حكومة الأخيار) يمكن أن يؤذي النمو. فإذا صارت فجوات الدخل واسعة بشكل كافٍ، فإنها يمكن أن تؤدي عندئذٍ إلى مساواة أقل في الفرص، وخاصةً في قطاع التعليم. وتعد المرونة الاجتماعية في الولايات المتحدة، بخلاف الحكمة الشائعة، أقل مما هي عليه في معظم البلدان الأوربية. وقد أصبحت الفجوة في علامات الاختبارات بين الأطفال الأمريكيين الأغنياء والفقراء أوسع مما كانت عليه قبل 25 عاماً، بنسبة تتراوح ما بين 30و40 بالمئة. ووفقاً لمعايير محددة، تكون المرونة الطبقية أكثر تماسكاً في الصين مما هي في الولايات المتحدة. على أي حال، سيظل بعضُ أولئك المتربعين على رأس الحكومة متشككين من أن عدم المساواة مشكلة في حد ذاتها. إلا أن لهم، في الواقع، مصلحة كبيرة في التقليل منها، لأنها إذا استمرت في الارتفاع، فإن الزخم من أجل التغيير سيتراكم، وسيؤدي إلى محصلة سياسية لا تصب في مصلحة أي طرف. ومن هنا تأتي الحاجة لوضع جدول أعمال صحيح وتقدمي.

مستعيرين أفكاراً من اليسار ومن اليمين على حدٍّ سواء، نعرض فيما يلي اقتراحاً يحاول معالجة عدم المساواة بثلاث طرق لا تلحق الضرر بالنمو:

نافسْ: ينبغي أن تعطى الأوَّلية لهجومٍ مماثل لذلك الذي شنه روزفلت على الاحتكارات والمصالح المكتسبة، سواء كانت مؤسسات عامة صينية، أم مصارف كبيرة في وول ستريت. يحتاج العالم، بشكل خاص، إلى شفافية أكبر في عقود الحكومات، وفي وضع قانون مقاوم للتجميع الضخم للرساميل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون أغنى رجل في العالم، كارلوس سليم، قد جمع ثروته من خلال العمل في قطاع الاتصالات المكسيكي الذي كانت فيه الضغوط التنافسية فيه منخفضة جداً، والأسعار عالية جداً.

استهدفْ: ينبغي على الإنفاق الحكومي أن يستهدف الفقراء والشباب. في العالم، يُصرف الكثير جداً من السيولة على معونات الوقود التي تفضل الأثرياء على نحو غير متكافئ (في آسيا)، والرواتب التقاعدية المرتفعة التي تفضل الأثرياء النسبيين (في أمريكا اللاتينية). لكن الهدف الأكبر للإصلاح هو دول الرفاه في العالم الثري. وبسبب مجتمعاتها المُسِنّة، لا تستطيع الحكومات تعليق الآمال على إنفاق أقل على كبار السن، لكنها تستطيع خفض وتيرة الزيادة -مثلاً، من خلال رفع أعمار التقاعد على نحو أكثر دراماتيكية، واختبار سبل العطايا عند العرض. ومن الممكن أن تذهب بعض السيولة إلى التعليم. وكان العصر التقدمي الأول قد قاد إلى إنتاج المدارس الثانوية ذات التمويل العام، وهذه المرة، يجب أن يكون تعليم ما قبل المدرسة هو الهدف، بالإضافة إلى المزيد من إعادة التدريب للعاطلين عن العمل.

أصلحْ: يجب إصلاح الضرائب، لا من أجل معاقبة الأغنياء، وإنما لجمع الأموال بطريقة أكثر كفاءة وبشكل تصاعدي. في الاقتصاديات الأفقر، حيث يستشري التهرب الضريبي، ينبغي أن يكون التركيز على المعادلات المنخفضة والتنفيذ الأفضل. وفي الاقتصاديات الغنية، يجب أن تأتي المكاسب الرئيسة من إزالة الاستقطاعات التي تفيد الثري بشكل خاص، وتضييق الفجوة بين معدلات الضريبة على الأجور ودخل رأسمال، والاعتماد أكثر على الضرائب الكفأة التي يدفعها الأغنياء على نحو غير متكافئ، مثل بعض ضرائب الممتلكات.

يجري حالياً تبني أجزاء مختلفة من هذه الأجندة أصلاً في بلدان مختلفة. فقد استثمرت أمريكا اللاتينية في المدارس، وبادرت إلى التحويلات النقدية المشروطة للفقراء جداً، وهي المنطقة الوحيدة حيث تتراجع حدة اللامساواة في معظم البلدان. يعدّ (تبادل الأدوار/ الملابس)، إشارة دالة على التغيير، لكن أمام السياسيين طريقاً طويلة لا بد من سلوكها. وغالباً ما تكون غريزة اليمين متجهة نحو جعل الحكومات أصغر، بدلاً من أن تكون أفضل. كما أن فشل اليسار، المفترض أنه يسعى لتحقيق المساواة، هو أكثر جوهرية. وفي شتى أرجاء العالم الغني، تنفد الأموال لدى دول الرفاه، على حين يتباطأ النمو وترتفع وتيرة اللامساواة. ورغم ذلك، فإن الجواب الوحيد لدى اليسار هو فرض معدلات ضرائب أعلى على صانعي الثروات. ويحتاج السادة أوباما، وميليباند وهولاند إلى الإتيان بشيء يعد بالمزيد من العدالة والتقدم على حد سواء. وإلا، فإن الجميع سيدفعون الثمن.

عن مجلة (Economist)

العدد 1105 - 01/5/2024