كوكب مملوء وأطباق فارغة… الجغرافيا السياسية الجديدة للغذاء

ارتفعت أسعار المواد الغذائية بأكثر من الضعف خلال العقد الماضي. وهذا ما فاقم العبء على الفئات الأشد فقراً في العالم في محاولاتها لتأمين قوت يومها. وإذا ما استمر هذا الاتجاه فمن المرجح أن يؤدي انتشار الاضطرابات الاجتماعية المتصلة  بمشاكل توافر الغذاء إلى عدم الاستقرار السياسي. هذه المشكلة ليست مشكلة زراعية فحسب، بل هي مشكلة تجمع بين الطاقة ومصادر المياه والنقل والصحة وتنظيم الأسرة. إن إنتاج كمية من الحبوب تكفي حتى موسم الحصاد التالي شكّل تحدياً للفلاحين منذ عرف الإنسان الزراعة. لكن هذا التحدي أخذ يشتد اليوم مع ظهور عناصر جديدة مثل: تراجع مناسيب المياه، وبلوغ إنتاج الحبوب ذروته الإنتاجية، وارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى عامل تآكل التربة الذي يزيد من صعوبة تحقيق توسع في الإنتاج بسرعة كافية. نتيجةً لذلك، تقلصت الفترة الزمنية التي تغطيها مخزونات الحبوب حتى موسم الحصاد التالي من معدل 107أيام استهلاك قبل عشرة أعوام أو نحو ذلك، إلى معدل 74 يوماً استهلاك في السنوات الأخيرة. أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة الذين ينفقون على الغذاء نسبة تصل إلى 9 بالمئة من دخلهم، كانوا، إلى حدِّ كبير، بعيدين عن هذه التحولات في الأسعار.

لكن كيف يستطيع أولئك الذين يعيشون في الدرجات الدنيا من سلم الاقتصاد العالمي تدبير أمورهم؟ في السابق، كانوا ينفقون ما بين 50 و60 بالمئة، من مداخيلهم على الغذاء. قبل الارتفاعات الأخيرة التي حدثت للأسعار، كان العديد منهم يكتفون بتناول وجبة غذائية واحدة في اليوم. لكن الآن، ملايين من العائلات صارت تقضي عادةً يوماً أو يومين من كل أسبوع دون أن تتناول حتى وجبة واحدة. ما الذي سيحصل مع الارتفاع التالي للأسعار؟ تدبير (شد الأحزمة على البطون) نجح مع بعض الناس الأكثر فقراً حتى الآن، لكن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر إلى أبعد من ذلك. لا شك أن هذا سوف يقود، من جملة ما سينتج عنه، إلى عدم الاستقرار السياسي. ربما نشهد انهياراً لبعض الأنظمة السياسية، وسقوطاً لبعض الحكومات. فمع شح إمدادات الغذاء، تبرز جغرافيا سياسية جديدة للغذاء. وفي عالمٍ جديدٍ قاسٍ كهذا، سنشهد تنافساً دولياً شديداً حول الأرض والماء، وسيندفع كل بلد للدفاع بقوة عن مصالحه. في غضون ذلك، لا يمكننا أن ندعي بأننا غير مدركين للعوامل التي تقوّض إمداداتنا من الغذاء، وبالتالي مصير حضارتنا ومستقبلها. والحقيقة أننا نعرف ما نحتاج إلى القيام به.

حدث ذات مرة، حين كنا نواجه مشاكل على جبهة الغذاء، أن لجأت وزارات الزراعة إلى تقديم حوافز مالية للفلاحين؛ مثل دعم أسعار منتجاتهم، فكانت سرعان ما تتحسن الأحول بعد ذلك. غير أن مواجهة معضلة شح إمدادات الغذاء اليوم باتت مهمة أعقد بكثير. فهي تحتاج إلى التعاون والتنسيق بين وزارات الطاقة وموارد المياه وقطاعات النقل والصحة ومؤسسات تنظيم الأسرة، إضافةً إلى جهات أخرى. وبسبب شبح التغير المناخي الذي يهدد بتعطيل الزراعة فقد نجد أن تأثير سياسات الطاقة على الأمن الغذائي في المستقبل سيكون أكبر بكثير من تأثير السياسات الزراعية. باختصار، إن تفادي حصول انهيار في نظام الإمدادات الغذائية يتطلب تعبئة مجتمعنا وزج كامل طاقاته في هذه المعركة. ففي جزء الطلب (من معادلة الغذاء)، ثمة أربع ضرورات ملحة؛ وهي: تثبيت عدد سكان العالم، استئصال الفقر، تخفيض وتيرة استهلاك اللحوم وتغيير اتجاه سياسات إنتاج الوقود الحيوي التي تشجع على استخدام الغذاء، الأرض والماء في إنتاج الوقود، بدلاً من استخدامها في إطعام الناس. ما نحتاج إليه حقاً هو المضي قُدُماً على جميع هذه الجبهات في الوقت ذاته. وفي جزء العرض (من معادلة الغذاء)، نحتاج إلى مواجهة تحديات تشمل تثبيت استقرار المناخ، وزيادة إنتاجيتنا من الماء، والمحافظة على التربة. صحيح أن الحفاظ على الاستقرار المناخي ليس بالعمل السهل، لكن رغم ذلك بوسعنا القيام بأمور كثيرة إذا تحركنا بسرعة لجهة إجراء تخفيض كبير في انبعاثات الكربون يصل إلى نسبة 80 بالمئة، خلال السنوات العشر القادمة. وبذلك نؤمن لأنفسنا إمكان تجنب أسوأ النتائج المترتبة على التغير المناخي. وهذا يعني إجراء إعادة هيكلة بالجملة لاقتصاد الطاقة العالمي. وأسهل وسيلة لتحقيق ذلك هو إعادة هيكلة النظام الضريبي.

إن لدى السوق مواضع قوة عديدة، ولكن لديه أيضاً نقاط ضعف خطيرة. فعلى سبيل المثال، يتأثر السوق فوراً بالتكاليف المباشرة لتعدين الفحم ويدفع بها إلى محطات توليد  الكهرباء. إلا أن السوق لا يدرج أو يضمن التكاليف غير المباشرة للوقود الأحفوري (النفط والغاز)، في الأسعار، مثل التكاليف التي يدفعها المجتمع بسبب ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. إن هدف إعادة هيكلة الضرائب هو التقليل من الضرائب على الدخل، وزيادة الضرائب على الكربون، بحيث يشمل تكلفة التغير المناخي والتكاليف غير المباشرة في أسعار السوق. وإذا استطعنا جعل السوق شفافاً، فإن الانتقال من استخدام الفحم والنفط إلى الرياح والطاقة الشمسية وحرارة باطن الأرض سيتم بسرعة. وإذا ألغينا مخصصات الدعم الكبيرة التي تُعطى لصناعة الوقود الأحفوري، فإن ذلك الانتقال سيكون أسرع. إضافةً إلى ضريبة الكربون، سنحتاج أيضاً إلى تقليل اعتمادنا على السيارات بتفعيل دور النقل العام وحجمه على مستوى العالم، لكي يصبح منسجماً مع المعايير الأوربية. وحيثما تستخدم السيارات الصغيرة يلزم تأكيد ضرورة تشغيلها بالكهرباء (بدلاً من الوقود السائل). لقد حقق العالم سلفاً كهربة جزئية لأنظمة قطارات الركاب.

وإذا انتقلنا من استخدام محركات وقود الديزل التقليدية إلى استخدام المحركات الهجينة (وقود وكهرباء معاً) والسيارات الكهربائية الصرفة، أمكننا أن نتحول في توليد الكهرباء من النفط إلى الموارد المتجددة. في أثناء ذلك، ومع تقليص حجم أسطول السيارات في الولايات المتحدة(بعد أن بلغ حده الأقصى عام 2008)، فإن تراجع استخدام البنزين الذي شهدته الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة سيتواصل. وهذا التراجع (في بلد يستهلك كمية من مادة البنزين تزيد عن مجمل ما تستهلكه البلدان الـ 16 التي تتلوه في حجم الاستهلاك) يمثل اتجاهاً جديداً يستحق الترحيب. إن التحدي الذي يواجهنا الآن هو نقل حضارة قرننا الحادي والعشرين إلى مسار مستدام، وهو ما يقضي بضرورة انخراط كل واحد منا في هذا المجهود. وهذا لا يعني فقط تغيير أنماط الحياة بتغيير زجاجات المصابيح الكهربائية أو إعادة تدوير أوراق الصحف، رغم أهمية ما تنطوي عليه مثل هذه الإجراءات.على مدى عقود، ظل علماء البيئة يتحدثون عن أهمية إنقاذ كوكب الأرض، ولكن التحدي الآن هو إنقاذ الحضارة نفسها، وهي قضية تتصل بإعادة هيكلة اقتصاد الطاقة العالمي والقيام بذلك قبل أن يخرج التغير المناخي عن السيطرة وقبل أن يطغى نقص الغذاء على نظامنا السياسي.

ليستر براون عن The Guardian

ت: عادل بدر سليمان

العدد 1105 - 01/5/2024