تسديد رواتب عمال شركات متوقفة عن العمل

الواقع غير المرضي للقطاع الصناعي، تفاقم كثيراً، ووصل إلى طريق مسدود، وبات إصلاحه يحتاج إلى إرادة سياسية بالدرجة الأولى، لأن سني الإصلاح الاقتصادي الضائعة لم تؤد إلى أي نتيجة إيجابية مهمة، وأبقت قاطرة التنمية على حالها، غارقة في الفساد وضعف الأداء وتراجع التنافسية وتضاعف مخازينها وعدم تلبيتها لمتطلبات الاقتصاد المعاصر إنتاجياً وتسويقياً وعمالياً. ومن نوادر قطاع الصناعة السوري، التي لا نجد لها مثيلاً في العالم، وضع عمالته، فهناك عمال ينتظرون آخر الشهر لاستلام رواتبهم وأجورهم، دون أن ينتجوا شيئاً، وشركاتهم المتوقفة عن العمل، تسدد لهم أكثر من مليار ليرة سنوياً، بحسب مصادر وزارة الصناعة، هي  أي المليار  خسائر محققة بلاشك، ترهق هذه الشركات، وتسهم في زيادة خسارة المؤسسات التابعة لها بشكل كبير. ولم تنفع كل الإجراءات المتخذة في مجال إصلاح هذه الشركات، والاستفادة من عمالتها، وخلق بيئة عمل مناسبة لها، وإنقاذها من الوضع القائم حالياً الذي يدمي القلب.

جزء من الشركات العامة المتوقفة وصلت إلى هذه الحالة نتيجة ما تشهده البلاد من أحداث عنف وقتل، ولتموضعها في مناطق ساخنة، فوصلها لهيب الأزمة السورية الساخن جداً، وأتى على آلاتها وقطعها الإنتاجية المعدة للتركيب، معمل الورق بدير الزور أنموذجاً. كما أن  بعضها الآخر كان يعاني مشكلات مزمنة، وحالته بين التدهور والموت البطيء، كشركة بردى وهي من الشركات المؤممة في ستينيات القرن الماضي. ورغم ديونها، أتت عليها النيران وذهبت أدراج الرياح. ومالا يمكن فهمه على الإطلاق هذه الرغبة العارمة في دفع القطاع الصناعي العام للتلاشي؟ سواء بحرق بعض شركاته كما يجري حالياً، أو نتيجة عدم الرغبة الحكومية في إصلاحه؟ وهما شيئان يؤديان إلى نتيجة واحدة، غير مرغوبة من كل شرائح السوريين، الذين يرفضون تبديد هذه الثروة التي تشكلت على مر السنوات، وسددت قيمتها من جيوبهم التي تزود خزانة الدولة بالموارد.

قبل سنوات كشفت وزارة الصناعة عن إحصائية لافتة بمضمونها، ومدى انعكاسها على القطاع الصناعي العام، والمتمثلة بوجود 4 بالمئة من عمالتها غير قادرة على العمل نتيجة العجز أو الإصابة، وهي محسوبة على العمالة الإنتاجية، وتؤخذ بالحسبان عند إعداد الموازنات النهائية، بينما هي لا تستطيع إلى العمل سبيلاً بسبب وضعها. ولم تحرك جهة معينة ساكناً لمعالجة أوضاع هذه النسبة المرتفعة، وسبل الاستفادة منها في أماكن عمل أخرى، ومطارح قد تناسب وضعها الصحي المستجد. كما كشفت مصادر الوزارة سابقاً أن عدداً لايستهان به من عمالتها، المتقدمة في السن، لا تحمل أي شهادات علمية، ويصعب إعادة تأهيلها وتدريبها من جديد، وفي الوقت عينه رواتبها وأجورها مرتفعة جداً، وبالتالي كلفتها على الإنتاج عالية. وفي عود على بدء، لا يمكن قبول أن تستمر الصناعة في تسديد رواتب لعمال عاطلين عن العمل، في شركات صارت بحكم الميتة، كما أن هذا الواقع ليس مسؤولية هذه العمالة، التي ضحت كثيراً، واحتملت الظروف القاسية في سنوات سابقة، وبذلت كل ما في وسعها للمحافظة على شركاتها وفرصة عملها التي تؤمن لها قوتها اليومي، وتقيها شر السؤال. فالدولة التي كانت تعد نفسها رب العمل، وإدارات هذا القطاع ومسؤوليه، هم من يتحمل مسؤولية التدهور والتراجع والخسائر المتراكمة في المجال الصناعي.  إذ إن خططهم ومشروعاتهم وتصريحاتهم التي أطلقوها، لم تك أكثر من ذر رماد في العيون، ولم تتجاوز الحبر الذي كتبت به، ومع كثرة المشروعات والمقترحات الإصلاحية، التي كان آخرها ماقدمه نائب وزير الصناعة محمد توفيق سماق، بات هناك تخمة في هذا المجال، أعاقت تنفيذ خطوة واحدة قادرة على إرضاء الجهات التي لها مصلحة في الإصلاح، بينما كانت الفئات والشبكات التي لا مصلحة لها في أي إصلاح أقوى، وأقدر للمحافظة على الحالة كما هي.

ثمة قضايا ومشكلات كبرى، في شركات القطاع العام الصناعي، بعضها يبدو مستعصياً على الحل، خاصة تلك الشركات التي منتجها لم يعد له سوق محلية أو خارجية، كشركة الكبريت، وبالتالي أصبح وجودها عبئاً على الاقتصاد الوطني، وفي الوقت ذاته هناك مشكلات، لا بد من إيجاد حلول لها لإخراجها من واقعها المأسوي، إذ هناك فرصة متاحة دوماً لمعالجة المشكلات، بشكل فعلي، وليس كما اتبعت الحكومات المتعاقبة منذ عقدين، إذ انتهجت أسلوب العلاج عبر الخطط والبرامج، دون القفز خطوة إلى الأمام، خطوة واحدة على الصعيد العملي كانت كافية لبث بعض الأمل والحياة في مفاصل تلك الشركات، وإعادة هدير آلاتها بشكل يحقق الجدوى من تشغيلها. والقضية في القطاع العام الصناعي متشعبة، أحد فروعها العمالة، ولايمكن تجزئة الإصلاح أو إخراجه خارج النسق العام، ووضعه على سكك متعددة، لأن الوضع السوري، قبل الأزمة وأثناءها، لايقبل التجزئة في كل شيء، ومنه الإصلاح. فكل القطاعات لابد أن تشملها مظلة الإصلاح، وإلا بقيت المراوحة في المكان هي سيدة الموقف، ونتائجها المخيبة للآمال هي الحصاد الذي نجنيه حالياً، وللأسف بدل أن تكون الكوادر البشرية، وبالذات أصحاب الزنود السمر و(الأفرول الأزرق) هم عناصر فعالة ومنتجة تمكن البعض من تحويلهم إلى عناصر عاطلة عن العمل. ليبقى السؤال: أين أنفقت اعتمادات تدريب العمالة وتأهيلها؟ وما مصير خطابات المسؤولين حول ضرورة التأهيل والتدريب التي باعونا إياها في الفترة الماضية؟

العدد 1107 - 22/5/2024