الأدب الضاحك عند سليمان العيسى وعبد السلام العجيلي

للنكتة والدعابة مكان أثير في قلوب السوريين، فهي فاكهة الحديث وخير ما تشتهي الآذان سماعه، بما تضفيه من المرح في المجالس وبقدرتها على انتزاع الضحكة من الحاضرين حتى في أحلك الأوقات وأشدها بؤساً، لذلك فالظرفاء ذوو مكانة مميزة في المجتمع السوري، يتصدرون الدعوات وسهرات الأصدقاء بخفة ظلهم ونكتتهم الحاضرة دوماً.

وقد شهدت سورية في الفترة الواقعة بين جلاء الفرنسيين، مروراً بحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، جيلاً من الأدباء الذين خاضوا في بحور الأدب وامتلكوا ناصية اللغة، وأبدعوا في جميع فنونه من شعر ونثر ، فكانت القريحة لا تفارقهم حتى في حياتهم اليومية بتفاصيلها الصغيرة واجتماعاتهم الدورية، في البيوت والمقاهي المعروفة مثل (الهافانا) و(البرازيل). فكانوا إذا أرادوا التندر على بعضهم ينظمون القصائد الهزلية ويكتبون المقامات ويستذكرون المواقف الطريفة التي مروا بها، بالطريقة ذاتها مما أنتج ما يمكن تسميته بالأدب الضاحك الذي كان ولا يزال يجد ترحيباً من القراء، لأنه يجمع بين النقيضين: اللغة البليغة ومتانة السبك من جهة، وطرافة الموضوع من جهة أخرى.

 وممن أبدع في هذا المجال إسماعيل صدقي صاحب جريدتي (الكلب) و(بنت الكلب)، وسليمان العيسى وعبد السلام العجيلي ووجيه البارودي  وغيرهم. وقد جمع بعضهم ما كتبه في هذا المجال بكتاب أو ديوان خاص، نذكر منها (مقامات عبد السلام العجيلي وأشعاره)، و(الديوان الضاحك) لسليمان العيسى. ففي الأول جمع عبد السلام العجيلي الذي كان رئيساً لحكومة الساخرين جل الأشعار التي نظمها منذ صباه، وخصص قسماً منه لما أسماه بالإخوانيات الضاحكة، وهي القصائد التي نظمها بناء على طلب الأصدقاء خلال اجتماعاتهم، أو لاستفزاز بعض الأشخاص المقربين. وقد كتب بعضها معارضة لقصائد مشهورة مثل: الجندول لعلي محمود طه، أو قصيدة امرئ القيس (خليليَّ مُرَّا بي على أمِّ جندبِ). ولم تمنع هزلية المواضيع الأديب الكبير من استخدام اللغة الجميلة المعبرة والصور الشعرية الفريدة التي تذكرنا بأعمدة الشعر الكلاسيكي منذ أقدم العصور. خاصة أن ناظمها هو ذلك الطبيب الذي امتلك أسرار اللغة ومتح من ينابيعها الكثير. وفي قسم آخر من الكتاب جمع العجيلي المقامات التي كتبها مذ كان طالباً في كلية الطب حتى أوائل الخمسينيات. وقد كتب بعضها كرسائل مداعبة للأصدقاء أو رداً على رسائلهم. وبعضها الآخر لوصف حياة الجامعة ومشاكلها، وقد أضاف إليها مؤلفها بخياله القصصي الواسع طابعاً  طريفاً مشوقاً، مع الاحتفاظ بشكل المقامة الهمذانية وروحه، فكان ينهيها بأبيات من الشعر جرياً على عادة كتاب المقامات. وقد نالت تلك النصوص شهرة بين أصدقاء العجيلي فكان بعضهم يحفظ مقاطع منها عن ظهر قلب، وظلت محصورة بتلك الدائرة الضيقة من المعارف حتى قام مؤلفها بنشرها سنة 1963 .

  أما شاعر العروبة سليمان العيسى فله باع طويل في هذا النوع من الشعر الضاحك، وخاصة الشعر (الحلمنتيشي) الذي قد يستخدم فيه بعض الكلمات العامية. وقد جمع أغلبه في ديوان من 680 صفحة صدر في صنعاء سنة 2004. ثم صدر موجزاً ب 250 صفحة عن الهيئة السورية للكتاب سنة 2009. وقد أضاف مؤلف هذه القصائد تعليقات وحواشي خفيفة الظل زادت من جمالها ووقعها على القارئ. وتنوعت مواضيعه بين القصائد التي تبادلها الشاعر مع الأصدقاء وخاصة المرحوم إسماعيل صدقي، وتلك التي تصف محطات في حياة الشاعر، مثل القصائد التي تصف القبو الذي سكنه مع زوجته في حلب ثم في دمشق،  أو رحلاته المختلفة التي زار بها بلدان عدة، وتلك التي أرسل بها إلى أبنائه وأحفاده بمناسبات مختلفة. فكانت تلك القصائد بحق من الأعمال التي تجمع بين الحس الشعري الجميل الذي يعرفه قراء شاعر العروبة والجانب المرح من شخصيته الذي ربما كان غائباً عن الكثيرين قبل نشر الديوان الضاحك. مع العلم أن الشاعر الكبير لم يجعل قصائده هزلية بالمطلق بل كان يضمنها بعضاً من الحكمة التي طبع عليها أو يخلص منها بعبرة أو خلاصة تذكِّر القارئ بالمكان الذي يحتله صاحب هذه القصائد في الخريطة الشعرية العربية. مع التذكير بأن أدباء مثل إسماعيل صدقي نظموا الكثير الكثير من الشعر الضاحك لكنه غير متوافر حالياً لجمهور القراء مثل الكتابين المذكورين اللذين سيبقيان مثل واحة يخلد إليها القارئ هرباً من جفاف الكتب العلمية وهجير الفلسفة ولظاها، فيجد فيها الابتسامة غير المبتذلة والمنسوجة بلغة أدبية جميلة.

العدد 1105 - 01/5/2024