وما أدراكم من أنا؟

تسوقني الريح شرقاً فأفرح، ويوقظني مزاح الشمس فأغتبط. تصلني عتابا الفلاحين فأرقص، وأتمايل مع غناء الملاّءات. أنا من تتجمّد الدمعة في عينيَّ حين تزلّ قدم طفل، وأدعو له بالسلامة. أنا من تعرفني البراري بطيورها ووحشتها. مني يأخذ الزعتر البرّي شذاه، وتستعير الدفلى زهرها. فما أدراكم من أنا؟

أنا تمرّد شاعر صعلوك، وفحيح أفعى محاصرة. أنا غناء الريح في حقول القصب اليابس، أنا رعشة ناي بين أصابع راعٍ يلهث، ذكريات جندي يحرس وحيداً آخر الليل، هدير شحرورة فاجأها الشتاء فنسيت مطالع الأغاني. اليوم والأمس والغد بقايا لأيام غابرة. أنا من لم تره العين بعد، ولم يهلّ وجهي على الصفحات البيضاء بعد. أنا الكلمة واللون واللحن بعض من ملامحي. أنا الرواق الذي لا يضيء دون فكّ الطلاسم.

تطوّقني الزغاريد، تلتفّ حول معصميّ فلا أرضى، تأتيني القصائد الجاهلية وتعرض أطلالها، أحرن ولا أقرأ. لا أبوح بما أريد فيظنني الناس أحجية، تحملني المكائد فأفضحها. خاسر من يراهن عليّ، فمثلي لا يُراهَن عليه. أنا الحجاب أمام وجه فتاة ضاجّ بالصبا والفتنة، يرهقني عملي فأسقط أو أطير. لأجنحتي ريش من ذهب، لا يصطادني شاعر إلاّ في غفلة من وعيه، ولا أمرّ بمن ينتظرني. دائماً أفاجئ الناس والأشياء والفصول.

أنا المبتدأ والخبر في حساب النحاة، وأنا الذبيحة والنطيحة في عوالم المتعبّدين، والنار والماء للمجوس. أنا الفتح والردّة، الاعتزال والتصوّف، الزندقة والصفاء. أحيّر من يحاول كشفي، فيرتدّ عائداً إلى البديهيات الأولى. أسيل مع الماء وأنهض مع الغيم، أنام وأصحو في عيون السهارى والمتعبين، أمدّ إليهم أشرعة، وأغزل هواجسهم كما أشاء، كل على قدر معرفته بي. فما أدراكم من أنا؟

لأجلي تُدقّ المزاهر في الأفراح، ولأجلي تُسدَل الستائر أمام عيون تتلصص. أنا شهوة الماء وشهقة الغريق، أنا الصوت الصاعد إلى الأعلى حاملاً معه اعترافاته الأخيرة، حيث لا ينفع والد ولا ولد. أنا المهر الغالي لابنة سيّد القوم، وأنا الرغيف اليابس المسنن في حلق فقير جائع. أنا من لا يعود إلى أصله حين يعود الكون إلى ما قبل الانفجار الأول. أنا رابع الثلاثة وعاشر التسعة. أنا الحكمة والحماقة في رأس فيلسوف حائر، أنا المعادلة التي لا حلّ لها إلاّ بإبعادها إلى الأمام، بعيداً بعيداً، حيث لم يحن وقتي. أنا العنصر الأوّلي لحضارة قادمة، وآخر شيء لم يمت من حضارات سلفت.

أنا معدن الضوء وعجينة الشمس، نحاس الفضاء وغبار الماء. أنا من تُشيَّد لي الأسماء قصوراً في معاجم اللغات، وأنا الحلّ البديهي لأعقد المسائل. أنا الصفر المكعّب لطالب كسول، وأنا شهادة التفوّق في (الجلاء) المدرسي. أنا روح الريحان وماء العلقم.

تستطيعون يا من تنافقون في وصف جمالي، وجلالي، أن تورقوا من يباسكم حين أتجلّى بكامل بهائي، أو أنكم لا تستطيعون ذلك دون حضوري، تمكرون ويمكر الله…، أنتم اللاشيء في غيابي، وأنا الكلّ من دونكم، بي تكتملون مهما كان نقصكم وافراً. أنا وحدي من يمنحكم التشكّل على الهيئة التي أريد. لست العقل وحده، ولا الحكمة وحدها، لست قوّة الحياة فقط، وإنما… فما أدراكم من أنا؟

العدد 1105 - 01/5/2024