هل ستغادر سورية ثقافة كسر العظم وتهز جذع النخلة (2من 2)

-1-

في آذار ،2011 خرج شباب سوريون يهتفون للحرية ملوحين بقبضات عارية. طوبى لمن فعل ذلك. لكن الحراك السلمي وبعد بضعة أسابيع فقط وُجِّهَ وتَوجَّهَ نحو العنف.

أنتج عقل المعارضة تيارين رئيسين:

تياراً ركز جهده الإعلامي والسياسي على عنف السلطة المفرط ضد المتظاهرين فقط. وبدا رغم خوضه لتجربة الثمانينيات من القرن الماضي، وكأنه لم يستشفّ أن عدم التصدي بحزم للعنف الذي من خارج السلطة سيكلف البلاد ثمناً باهظاً، وتتشبث برفض أي قول قد تنتفع به السلطة.

وتياراً اختار العنف أداةً رئيسة لمواجهة السلطة، منسجماً مع مشروعه القديم، إقامة سلطته المستبدة. فأضيف للخوف الذي تظاهر الشباب لكسره خوفاً آخر، وانكفأت السلمية.

نجحت طاقة الحراك السلمي بإحداث ومضة، وبعض التصدع في وعاء السائد السياسي في السلطة والمعارضة.

من على أكتاف طاقة المحبة التي أطلقتها الومضة، أطلق ساسة كسر العظم موجات من طاقة الكراهية، وهُدِرَ الكُمُون الموجب الذي راكمه المجتمع خلال عقود(كما حصل في مطلع الثمانينيات).

 

-2-

حول العقل والضمير السياسي الحاكم لآليات أسهمت في إنتاج الأزمة ثم في تغذيتها. يتداول السوريون اليوم عن آلية رفعت مقام من ثبت أنه فاسد، يسميها البعض ظاهرة العطري. وعن أخرى ترفع شأن قليل الكفاءة الوظيفية في دوائر الدولة ومؤسساتها، وتسمى بالظاهرة الرومانية(1)، وعن أدوات أفسدت القضاء مكرسة فقد العدالة والشفافية والكفاءة. وعن طبقة فاحشة الثراء قزمت الطبقة الوسطى التقليدية وسحقت اقتصاد الريف، وعن مواطن بات بلا ظهر يحميه من فاسدين في مؤسسات الدولة ودوائرها، أومن عقل أمني حرص على إرهابه وجعله يستسلم لدونية مؤلمة.

وفي المعارضة عن ظاهرة (الجنبلاطية). إذ ثمة شخصيات تسعى كي لا تترك موقعاً للتعبير عن حدث معين إلا و تشغله. وكلما تبنت الشخصية رأياً جديداً ينقض آخر تبنته بالأمس، علا شأنها في سوق المعارضة السياسة، وكأنها تثاب، لكونها برهنت على أهلية انتماء ضميرها إلى نادي النخب السياسية.

وعن (جنبلاطية مكانية)، حيث تتنقل شخصية سياسية، (قيادية)، خلال فترة زمنية قصيرة، بين عدة منابر سياسية متباينة. وكلما تنقلت أكثر زادت قيمتها، وحجزت لها الدعوات لشغل مكان جديد، مع حفظ (حق العودة) لمكان سبق أن شغلته. من فعلوا ذلك، يشكلون نسبة مهمة في المعارضة. هي حالة تدفع للظن بعدم وجود معيار، أو يمين ويسار ووسط، بل مركز يسعى كل لشغله، ولإبعاد الآخرين عنه إن أمكن.

عن مطابخ سياسية معارضة غير خاضعة للمساءلة، شأنها شأن إدارات مؤسسات الدولة، تحقق أرباحاً وهي خاسرة. وإذ باتت تلك المؤسسات تعيش وبفضل الظاهرة الرومانية على موظف واحد ذي كفاءة معيارية.. فثمة ظاهرة تشبهها في المعارضة ذات التاريخ العريق بالحكواتية، والتي تصاب بحكة تحسسيه كلما لامستها فكرة المأسسة.

ويتداولون حول ثقافة كسر العظم الحاكمة للعقل وللضمير السياسي، وتعيق أو تمنع التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة.

 

-3-

يدور حديث السوريين في جلساتهم عن دمهم النازف، عن وباء بغضاء ينتشر، عن دمار لَحِقَ ببلادهم، عن حروب فوق ترابها، ودول تسعى لتفتيتها وافتراسها، عن تكفيرية سبق لها أن دمرت تماثيل بوذا، وتهدف اليوم إلى تدمير النموذج السوري للتعايش،عن فتاوى للقتل وعن قتل منهجي لعلمائها ولنخبة ضباط دفاعها الجوي وأكاديميتها العسكرية.

عن عصابات تنهب بيوتاً ومتاجر اضطر أصحابها لهجرها أو هُجّروا منها. عن فشل الأطراف السياسية السورية المتصارعة في إيجاد مخرج آمن من الأزمة التي تعصف، وعن ساسة يتعاطون معها بعقل مستثمر أو مقاول، وعن عقول ترى بعين القوة فقط، وأخرى بعين الثأر. عن اكتئاب بات ملازماً للطفل وللشيخ معاً، عن قلق من أن يتحول الراهن إلى حالة مستقرة، وعن جدات يرددن (الله يجيرنا من الأعظم).

في القرن الثالث قبل الميلاد، قال الحكيم الصيني، هان في تسو:

(كل البلدان كبيرة أم صغيرة لديها خلل مشترك، وهو أن الحاكم يحاط ببطانة من عديمي القيمة). والقيمة عند الحكيم (هان) هي ما تنتفع به البلاد وسكانها. ونحسب أن السياسة السورية، كبرت تنظيماتها أم صغرت، تعاني بطانةً فكرية وأخلاقية مشابهة. ثمة فقط ذلك الشذوذ الذي قيل عنه إنه من يثبت (يفضح) القاعدة.

غيمة سوداء تدوم فوق سورية، ستزداد قتامه إذا لم تفتح حلقة ثقافة كسر العظم.

هي حلقة مستعصية، إلا على ثقافة تكرس رفعة الآخر وليس دونيته وإقصاءه. ثقافة تربط بين سيادة القانون مفتاحاً لبوابة التطور، وبين ضرورة التكامل مع الآخر المختلف لتحقيق تلك السيادة. ثقافة تمزق الأحزمة المصنعة لمنع العقلين الفردي والجمعي من ملامسة الإمكانات النافعة لهما، والمتوافرة في الواقع.

أذكر وقفة في معسكر بوخنفالد أمام أفران الغاز. قال رجل من غواتيمالا للبروفسور الألماني الذي كان يرافقنا: كيف فعلوا ذلك؟.

رد الألماني: ستجد بين البشر بيضاً..كانوا صفراً أم سوداً، من قد يفعلون ما يشبهه. ذلك كامن في الثقافة البشرية.

قد يكون تنزيه النفس وإدانة الآخر من عوامل التدمير الذاتي، وقد يكون الازدهار كامناً في رؤية فضائل الآخر والاعتراف بها، كما في رؤية عيوب الذات والإقرار بها.

ربما على العقل السياسي السوري أن يشرف على المشهد، أن يغادر البيئة التربة.. إلخ، التي تنتج سياسته، كي يرى كيف يمكن له أن يصلح السياسة، فالعاهة التي تفتك بسورية في المقام الأول، ليست شخصاً أو حزباً أو جماعة، بل هي ما تتصارع الأطراف السياسية ضمن وعاء تلك البيئة بغباء وحتى اليوم لاحتكاره.

هل ستبحر زوارق مؤتمرات المعارضة الوطنية المزمع عقدها، ومؤتمر الحوار الوطني المأمول نحو ذلك الأفق؟

هل سنشهد وضع حجر الأساس، لعمارة سياسة صالحة؟

هل ستولد جبهة سورية واسعة، تعمل على وقف نزيف الدم، ومواجهة أعداء سورية الطامحين بأن يروها جاثية على ركبتيها؟

أن تخرج سورية من الأزمة واقفة على قدميها، يعني أن فرصة إعادة البناء كما فعلت ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ستكون في قبضة السوريين المبدعين. ويشهد التاريخ للشخصية السورية بأنها كانت دائماً مبدعة.

تدمير مَلَكة الإبداع تلك، هدف رئيس للحرب التي يشنها سدنة التكفيرية والعولمة الرأسمالية المتوحشة، كي لا تتمكن سورية من الوقوف على قدميها ثانية. طاقة كراهية هائلة تضخ لاحتواء تلك الملكة ومن ثم لتدميرها. والدفاع عنها هو في ذمة السوريين جميعاً، مجتمعاً وسلطة ومعارضة وطنية.

هل سينظر الساسة في مرآة المستقبل، ليرى كل منهم كم سيغدو جميلاً ورائعاً وبطلاً، لو أنه وظف طاقته لإنجاز تسوية سياسية، تحفظ لسورية قامتها المنتصبة. لتدخل معركة بناء دولة مدنية حديثة ترعى إدارتها الديمقراطية حدائق العدالة والحرية والمساواة، وتفتح الأبواب والنوافذ لعصر أنوار سوري يشع على جواره ويبدد ظلام التكفيرية، كما شع سابق له الأبجدية.

هل من عودة لجبران خليل جبران: (لا تملك المحبة شيئاً).

التملك والمحبة ضدان، وإنقاذ سورية يحتاج إلى صوت حر جهور، لا يبحث عن كسب شخصي، كصوت من حارب الاستعمار الفرنسي ومحاولاته تقسيم سورية إلى دويلات طائفية، وقال:

روحي فدا وطني وإني     مفيد لم أكن بالمستفيد

وكصوت أدان اغتيال علماء سورية وندد بتواطؤ الصامتين(وهم كثر)، وحفظ لجيش سورية الوطني مكانته، وليس لمن يربتون على كل كتف، ويغرقون في بازارات السياسة، فلا ينجلي لهم وجهٌ بل متاهة من متناقضات.

تحتاج سورية إلى من يقض مضجعه نزيف دمها واقتصادها، لا إلى متّجر بالسياسة، يتحين فرصة صيد ثمين تلوح من بين ثنايا نهر دم يتدفق.

تحتاج سورية إلى أمثال عروة بن الورد، والطائي، وعبد الرحمن الكواكبي، وعز الدين القسام، وفارس الخوري وجول جمال.. إلخ، لا إلى من هم من فصيلة سعد حداد وشايلوك وبندر، أو من أحفاد ابن جهم.

هل ستغادر سورية ثقافة كسر العظم وتهز جذع النخلة؟ ذلك هو السؤال.

 

1- اقترنت التسمية بمن اشتروا من جامعات رومانية شهادات دراسية عليا.

العدد 1105 - 01/5/2024