من الصحافة العربية العدد 677

«الثورة» السورية و«الخونة»

ثمة تعريف لـ(الثورة) يتفق عليه معظم روّاد البحث الأكاديمي في مجالي العلوم السياسية والاجتماعية. فـ(الثورة)، بتعريفها الكلاسيكي والأعم، هي مسارٌ مكثّف يُنتج تغييراً عميقاً في بنى المجتمع ومؤسسات الدولة، كما في المنظومة القيمية الحاكمة أو المهيمنة.

ويعتبر كثير من الباحثين أن الثورة تُعرَف بنتائجها، لا بخصائص مسارِها. فترى تيدا سكوبكول، مثلاً، وهي صاحبة الإصدارات العديدة في هذا المجال، أن (الثورة) توصف بأنها كذلك إذا ما تمكّنت من إحداث الانقلاب الذي تبغيه. و(الثورة)، بحسب سكوبكول، تحتاج لنجاحها إلى تضافر جملة من العوامل، بينها إنهاك مؤسسة الجيش بتدخلٍ أو ضغط خارجي. علماً أنها أقرت لاحقاً أن النموذج الذي قدّمته لشرح أسباب ثورات سابقة ومسارها ونتائجها، في كتابها المرجعي States and Social Revolutions

لا ينطبق على (الثورة الإيرانية) التي اندلعت بعد صدور كتابها بأشهر، ذلك أن أي تدخل خارجي لم يحصل لإنهاك جيش الشاه قبل إسقاطه. وهو أمرٌ شدد عليه الباحث البريطاني الراحل فريد هاليدي، الذي تابع أحداث إيران عن كثب وقام بتظهير جملة من خصائص (الثورة) هناك ودراستها: (التحرك السلمي، الطابع المديني، القول بـ(الشرعية الثورية)، دور الدين، بروز شخصية (القائد)…).

على أن تعريف (الثورة) وفق قاموس الباحثَيْن المذكورَين أعلاه، كما وفق معظم الباحثين البارزين، لم يقم على أساس معيارٍ (قيَمي). فـ (الثورة) إسقاطٌ للنظام السائد تعريفاً، وهي إنتاجٌ لبُنىً حاكمة ومنظومة قيمية بديلة. أما في ما خص تقييمها، لناحية الأساليب والأهداف والنتائج، فتلك مسألة أخرى.

وهذا ما يدفعنا إلى القول إن ما يستدعي الدعمَ من (الثورات)، في المبدأ، ليس ذاك الذي يقضي على نظام، بل ما يُمهّد للانتقالِ إلى ما هو أفضل منه. وغيرُ صحيح أن سيرورة الثورات الهادفة إلى قلبِ نظامٍ ظالم، ولادة حكماً لما يفوقه عدلاً. فأمثلة التاريخ كفيلة بإثبات خلاف ذلك.

قد يُفيد المدخل هذا مقدّمة للحديث عن الوضع السوري. وقد يُعين القول كذلك، قبل الحديث عن (الثورة) على ضوء آخر مستجداتها، التأكيدُ أن (النظام) بما كان عليه قبل اندلاع الحراك السلمي في الأشهر الأولى لعام ،2011 غير قابلٍ للاستمرار على نحوه السابق، وأن تغييره لا تتطلبه دواعٍ أخلاقية فحسب، بل ضروراتٌ عملية للمتمسكين بالدولة السورية أو ما تبقى منها أيضاً.

بعد ذلك، يمكن الحديث عن خيارِ دعم (الثورة السورية) بشكلها الراهن. ولئن كان الكلام هنا لا يخص اليوم فقط، إلا أن الأحداث الراهنة تبيّنه بشكل أكثر تكثيفاً ومعنى. إذ لا يسع المرء، مثلاً، إلا أن يلحظ المنتشين بأخبار الانتحاريين الآتين من شتى بقاع الأرض إلى بلاد الشام مؤخراً لـ (تحرير) إدلب وجسر الشغور وغيرهما. ولا يمكن تخيل أسباب لذلك سوى أن المتفائلَ بـ(الفتح) المبين، إما أنه يرتاحُ لوجود هؤلاء، أو أنه يغض الطرف عن أشرطتهم الدعائية ليَسهل عليه تقديمُ سرديةٍ متماسكة ويرتاحَ من عبء إعادة النظر، أو أنه يعيش في فقاعة الحراك التي ما زال الإعلام الفضائي الطاغي يسوّق لها، أو أنه يعوّل على دول الخليج لضبط قطعان (الجهاديين) متى اشتدّ خطرهم على كل من يختلف معهم في المنهج، أو أنه، ببساطة، قادرٌ على تأمين نفسه وحجز بطاقة السفر، إن صحت توقعاته وتمكّن (ثواره) من تحطيم ما تبقى من هيكل الدولة السورية.. قبل أن تتجه أنظارُهم إلى جوارها.

ويبدو أن إرهاق الجيش السوري وحلفائه سيدفعهم إلى الانكفاء المؤقت، مادام خوض المعارك على أكثر من جبهة ومع غير طرف يعني مزيداً من الاستنزاف من دون أفق. على أن الانكفاء هذا، وهو الذي سيخلي مناطق تضعف فيها البيئة الحاضنة للجيش، ليس خبراً جيداً بالضرورة لخصوم دمشق الإقليميين. فأن تنفتح حدود (الدولة الإسلامية) على أرض الحرمين يغري بانفلاشها في اتجاه ما تعتبره مدىً حيوياً طبيعياً لها. وهذا أمرٌ لا ينسحب على سورية فقط، بل على العراق واليمن أيضاً.

و(داعش) والجماعات (الجهادية) ذات الولاء القاعدي، والتي تعيش على التناقضات، تمنّي النفس بأن تحظى بفرصة التمدّد. فإن حالَ الجيشُ السوري النظامي دون ذلك، أرهقه هؤلاء بانغماسييهم الذين يتسللون عبر الحدود التركية، وبرعاية أجهزة أنقرة كما بدأت تُثبت وثائق رسمية مسرّبة ودعاوى قضائية علنية، وبتهليل مريعٍ من فضائيات خليجية تنتقل بتغطيتها للحدث السوري من حضيضٍ إلى آخر. أما إن اجتهد خصوم النظام السوري في التضييق على هذه الجماعات لتحجيمها، فقد رفعَت من منسوب تركيزها على مركزيةِ أرض الحرمين، وسارت خطواتٍ في اتجاه التجنيد وتأسيس الخلايا النائمة، كما حالُ (داعش)، الذي يضرب (الروافض) في المملكة السعودية ويؤسس لزعزعة نظامها في الوقت عينه.

وتنظيم (الدولة الإسلامية) وأشباهه وحوشٌ متعددة الاستعمالات. هي مطيّة للجميع وقابليتها للتوظيف هائلة: تخيف (الأقليات) وحلفاءهم من (السنّة الممانعين) وخلافهم، وتقلق، بالقدر نفسه، التيارات الإسلامية (السنية) الأخرى وحلفاءها (الليبراليين)، من احتمال أن يشتد عودها وتلتهمهم جميعاً.

إن أدوات (الثورة) هذه، و(داعش) و(النصرة) ليسا سوى وجهيها الأردأ، لا الوحيديْن، لا يُمكن أن تنتج التغيير الذي بشّرت به مجاميع السلميين في أيام الحراك الأولى. وهذه الأدوات هي الفاعلة على الأرض السورية اليوم، وقد أصبحت كذلك منذ نحو ثلاثة أعوام.

والحالُ أن المرء يحار في وصف من لا يزال يعوّل على المجاميع تلك لإنتاج (التغيير)، خصوصاً ذاك الذي يدعم الظواهر تلك من خلف الحدود. إن كان الدافع حقده على النظام، فله من الأسباب الوجيهة الكثير. لكن الحاجة لوضع النقاط على الحروف ملحّة منذ سنتين وأكثر، وهي ما فتئت تزداد إلحاحاً: هذه لعبة انتقام قتلت، حتى اليوم، عدداً تتقاسم المسؤولية عنه أجهزة النظام والقوى الإسلامية المقاتلة، وفق أرقام (مرصد) المعارض الشهير نفسها. ومن تعجبه لعبة الانتقام هذه، أو أنه يستفيد منها، فهو لشعارات (الثورة) التي يتغنى بها.. مجرد (خائن)، على أقل تقدير.

ربيع بركات

(السفير 27/5/2015)

العدد 1105 - 01/5/2024