شيوخ الناتو: بين إسلامَيْن!

في عام 1932 أنهى ابن سعود حربه الطويلة للاستيلاء على مكة والمدينة، وأعلن نفسه ملكاً وسلطاناً على هاتين المدينتين المقدستين وكل الصحراء المحيطة بهما.

وفي فعل تواضع، عمّد ابن سعود مملكته باسم أسرته العربية السعودية. وقد احتاج أمراؤها الخمسة آلاف إلى ثلاثة وسبعين عاماً من أجل تنظيم أول انتخابات. وفي انتخابات الموظفين البلديين تلك،لم تشارك أحزاب سياسية، لأنها محظورة،ولم تشارك النساء كذلك، لأنهنّ محظورات أيضاً.

 إدواردو غاليانو

في مطلع القرن العشرين كانت مصر والشام والعراق في حالة غليان ومد نهضوي واعد وصاعد، وكانت مجتمعاتنا على درجة من العافية. بحيث كان الحوار هو اللغة الوحيدة المستعملة لفك الاشتباك بين التيارات الفكرية المتعارضة. وكانت قيم النهضة والتنوير تشق طريقها بثبات إلى أعماق مجتمع مشبع بالتوق إلى الخروج من عصر الظلمات. وكانت السجالات الفكرية بين الإسلاميين والعلمانيين لا تزال حاضرة في الذهن وطازجة في العقول، ومنها السجال الشهير بين الرائد العلماني فرح أنطون والإمام محمد عبده مثلاً، من دون أن يُكفِّر أحد أحداً!

وبعد ثلاثة عقود كان ذلك المناخ لا يزال مسيطراً، لدرجة أنه كان بإمكان رمز التنوير والعلمانية طه حسين أن يهاجم خصومه الإسلاميين بقسوة، بعد الأزمة الشهيرة لكتابه الأشهر (في الشعر الجاهلي) (1926) وأن يسخر منهم أيضاً ببيت شعري طريف، سرعان ما أصبح على كل لسان في مصر :

ثلاثةٌ رابعُهم إبليس

الشيخُ والحاخامُ والقسِّيسُ

ورغم ذلك فإن إسلامياً ما لم يصدر فتوى بهدر دمه، ولم يخرج متعصب ما لقتله، وجل ما فعله أحد خصومه المتدينين أن رد عليه ببيت شعري مقابل، وجاء سمجاً ومنفراً لأنه حمل سخرية من عاهة المثقف التنويري:

ثلاثةٌ فيها الردى والنُّكْر    

طه حسينٌ والعمى والكفرُ

لا بأس، مادام الأمر توقف هنا، عند حدود الرد الكلامي. إنما مع تقدمنا في سلم الزمن، وبعد نصف قرن جرت خلالها مياه كثيرة في الأنهر العربية كافة، وفي عام ،1994 تقدّم إسلامي متعصب من شيخ الرواية العربية، وهرم مصر الرابع نجيب محفوظ (الذي كان قد بلغ الثالثة والثمانين من العمر، وكان قد نال جائزة نوبل قبل ست سنوات فقط) وغرز سكيناً في رقبته!

وكان أحد (أمراء الجهاد) في مصر قد وجّه هذا العضو لتنفيذ الجريمة، بدعوى أن محفوظ كافر، والدليل روايته (أولاد حارتنا)، وينبغي أن ينزل فيه القصاص الإلهي، جزاء ما اقترف قلمه قبل أربعة عقود! (كانت الرواية قد نشرت في الخمسينيات)!

والمذهل أكثر أنه بعد انتفاضة مصر الأخيرة (25 كانون الثاني 2011) أفرج عن ذلك (المجاهد)، وتداولت الصحف تصريحاته. والرجل يدعى (محمد ناجي مصطفى)، وقد أعلن أنه لو كان محفوظ حياً اليوم لما تردد في تنفيذ جريمته مرة ثانية! وقال (شرفتني الجماعة بأن عهدت إليَّ بتنفيذ الحكم فيه فأطعت الأمر)، وحينما سُئل إن كان قرأ الرواية قال (أستغفر الله)! فهو لم يقرأ شيئاً من أعمال محفوظ، وإنما اكتفى بما قاله له أميره ومرشده الجهادي!

ما الذي حدث للعقل العربي والمصري على امتداد هذا الزمن؟ وكيف تحولت تلك المياه الجارية إلى مياه آسنة، عطنة، تفوح بالنتانة والقبح؟ وكيف تم تحطيم العقل العربي مجدداً وعلى هذا النحو المروّع؟

ولماذا كلما خطونا خطوة إلى الأمام تبعتها عشر خطوات إلى الوراء؟

للإجابة عن هذه الحزورة، ما علينا سوى التوجه بأبصارنا جنوباً من جديد، إلى حيث مملكة السبات الظلامي والقروسطوي ذاتها السعودية! فهي التي أنتجت – بفعل من ركودها وسباتها الدهري- نسختها الخاصة عن الإسلام الإسلام الوهابي، نسبة لمؤسسه محمد بن عبد الوهاب! وهو إسلام مفصّل على مقاس تلك المملكة الصحراوية بالضبط، وقد جاء على شاكلتها تماماً! فهو إسلام صحراوي مغلق، يضيق بالآخر إلى درجة تكفيره، يسعى لهدف كبير وهو شدُّ التاريخ من أذنيه للعودة إلى الوراء قروناً، ويغلق النوافذ والأبواب كلها بوجه رياح الخارج التي قد تحمل خطر تغيير ما، ويوصد أبواب الاجتهاد كلها واضعاً المفاتيح في جيبه، ويرفض المختلف عنه لأدنى درجة، ويحلم بإعادة عقارب الزمن إلى الوراء.

والمذهل أكثر أن هذا الإسلام المغلق على الداخل ينفتح على الخارج الأمريكي بالذات، هنا تجد هذا النوع من الإسلام جاهزاً لتنفيذ الأوامر الأمريكية دون تردد أو نقاش، وإصدار الفتاوى اللازمة لذلك، والعمل لكل ما من شأنه تأبيد السيطرة الأمريكية- الإسرائيلية على مصائر شعوب هذه المنطقة ومقدراتها ومستقبلها!

باختصار فإن السعودية أنتجت نموذجاً للإسلام المتخلف، المغلق، الهمجي، في مقابل الإسلام الشامي- المصري المنفتح تجاه الآخر، والقابل للاجتهاد وإعمال العقل والفكر في مسائل الدنيا، والمتسامح تجاه الداخل، والمقاتل أيضاً تجاه الخارج المعادي لأمتنا.

ومقابل ذلك السفر المشرق من رموز النهضة العربية وحركة التحرر العربي على امتداد قرنين من الزمان، ممن قدمهم التيار الإسلامي من العراق إلى المغرب، ليقودوا ثورات وانتفاضات ومعارك التحرر من المستعمر الخارجي والهيمنة الأمريكية والمشروع الصهيوني (من الأمير عبد القادر الجزائري إلى السيد حسن نصر الله)، طرحت السعودية نموذجها البائس نفسه، الذي لم يقدم حتى اليوم سوى الخراب والدمار لشعوبنا، والتشويه الكامل لجوهر الإسلام الحقيقي. وهو تشويه ستستمر آثاره وذيوله في أذهان الجميع لقرون طويلة مقبلة، وسنحتاج إلى جهد هائل مستقبلاً لتصحيح الصورة السوداء التي ارتسمت في أذهان البشر في كل مكان تجاه الإسلام عامة!

وإذا كان النموذجان الإسلاميان ما فتئا في صراع واشتباك مستمرين منذ عقود، فإن الهيمنة المالية السعودية، التي تُرجمت هيمنة سياسية منذ التسعينيات، جعلت كفة الإسلام السعودي الوهابي تحقق تقدماً كاسحاً، وإسلام التسامح والحب والانفتاح في حالة دفاع وانزواء! وترجم هذا التقدم في عناصر كثيرة أبرزها ظهور الحركات السلفية التكفيرية هنا وهناك، وعلى رأسها تنظيم القاعدة!

وفي الأزمة السورية الراهنة برز دور الثلاثي الإرهابي الوهابي، القابع في الحضن السعودي- القطري، القابع أيضاً في الحضن الأمريكي- الإسرائيلي، نعني به  أيمن الظواهري- يوسف القرضاوي- عدنان العرعور.

أيمن الظواهري أعلن مباركته ل(الثورة السورية)! ودعا مجاهدي القاعدة في بلاد الشام للعمل بجد أكثر،كما دعا أنصاره في العراق للالتحاق بإخوتهم في سورية.

أما عدنان العرعور فقد أنشئت له فضائية خاصة بالكامل، تدعى (صفا). تبث من داخل السعودية، وجلّ رسالتها وطموحها في هذه الدنيا الفانية، الهجوم على الشيعة وبقية الفرق الإسلامية، الموجودة بكثرة في الشمال العربي الحضاري والتعددي، وتكفير هؤلاء جميعاً، والتحريض ضدهم، واستحضار كل بذاءات اللغة لنعتهم بها، والعمل على المزيد والمزيد من التجييش الطائفي والمذهبي، حتى لو قاد الأمة إلى حرب المئة عام المقبلة!

وفي كل يوم يخرج علينا هذا العرعور بوصلة نباح طائفي مقززة، أشبه براقصة شرقية مبتذلة تبالغ في هز أردافها ونهديها لإثارة الغرائز الجنسية عند المشاهدين، كذلك العرعور يبالغ في استخدام مفردات وشتائم طائفية مقذعة، بغية إحداث أكبر قدر من الإثارة الطائفية لدى جمهوره القطيعي!

وهو لا يملك من أمر دينه شيئاً،وليس لديه من الرصيد ما يعتد به، اللهم باستثناء غبائه وأحقاده وضحالته المعرفية، ولكن هذا بالضبط ما يلزم للّحاق بركب الوهابية السعودية!

ورغم ذلك كله أثبت العرعور قدرته على اختراق النسيج الاجتماعي السوري الذي كنا نظنه محصّناً من قبل، فهو قادر على إنزال الآلاف إلى الشوارع، مثلما هو قادر على حشو الأدمغة الفارغة بأحقاد طائفية تكفي لممارسة جرائم مروعة، ولهز أعمدة البيت السوري بأركانه الأربعة.

وما يحدث اليوم يشير بوضوح إلى الهاوية الموعودة، بعد أن استقال العقل العربي، والسوري من ضمنه، من العمل. وعاد إلى إغفاءته الطويلة التي قد تمتد دهوراً، في ظل الهيمنة السعودية والخليجية على مقدرات الأمة، وسعيها الحثيث لتحويل الشعوب إلى قطيع بهيمي يحتكم إلى غرائزه وحسب!

وحسناً فعل الشباب السوري الناضج الذي كتب اسم العرعور على حاويات القمامة، في شوارع مدن سورية عدة، ملحقاً بالاسم شتيمة مقذعة، تليق به تماماً (وكذلك فعل الشباب السوري بفضائيتي الجزيرة والعربية).

أما نموذجنا الثالث فهو حكاية وحده، فقبل نصف قرن تقريباً قام جمال عبد الناصر بطرد يوسف القرضاوي من مصر، فلجأ هذا إلى جزيرة نائية في الصحراء هي قطر، ويبدو أن المقام طاب له هناك فاستقر به الحال حتى يومنا هذا، على وقع رنين الدراهم التي أزاغت بصره وعقله وروحه معاً، بما يكفي لجعله يوظف كامل ثروته الفقهية في خدمة أمير قطر الأب، ثم الابن الحالي (في اليوم التالي لإزاحة الابن لأبيه عام 1995).

ولأن مخزون الرجل الفقهي ليس قليلاً، ولا يقارن بالعرعور البائس مثلاً، جاء دوره خطيراً للغاية في الحراك الشعبي العربي الجاري، ووصل إلى حد الكفر والفجور في الأزمة السورية، باعتباره شريكاً في سفك الدماء السورية ومحرضاً طائفياً بامتياز!

فوجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج الولايات المتحدة على أرض قطر، لا يزعجه البتة، ولا يدفعه للتساؤل عما يفعله بالضبط عشرات آلاف الجنود الأمريكيين في الجزيرة الصغيرة، بل ربما أفتى بوجوب الترحاب بهم باعتبارهم (ضيوفاً) لا (محتلين) والله اعلم!

أما أبرز مآثر هذا المخلوق في الحراك العربي فكانت فتواه بوجوب قتل العقيد معمر القذافي. وبعد أن تحقق ذلك على يد تلامذته من الإخوان و(القاعدة)، تباهى القرضاوي كثيراً بإنجازه، وفي يوم الجمعة (9/11/2011) وقف خطيباً في أكبر مساجد بنغازي، متباهياً ومهنئاً مريديه على عملية السحل الوحشية التي تعرض لها القائد الليبي!

وبالمقابل ظهرت له فتاوى معاكسة بتحريم التظاهر تحريماً قطعياً في السعودية والبحرين وقطر وغيرها من مشيخات الانحطاط العربي المروّع، معتبراً أفعال المعارضة والمتظاهرين في الرياض والقطيف والدمّام بالسعودية، وكذلك في البحرين، معادية للإسلام الحق، ومهددة لوحدة الديار الإسلامية!

وفي الملف السوري انخرط المخلوق نفسه في الحملة العالمية المسعورة على البلاد بأسرها، وليس على النظام فحسب. فقد أفتى منذ البداية مؤيداً (الثورة السورية)! وداعياً السوريين للانخراط فيها حتى إسقاط النظام، مهما كان الثمن ! مثرثراً بابتذال (ألف، عشرة آلاف، مكية، ومالو)؟!

وعلى مدى جمعات كثيرة تخصص هذا المخلوق في التحريض على العنف في سورية، وآخر مآثره في هذا الصدد حواره مع صحيفة (فايننشال تايمز) اللندنية، حينما أفتى بحق (ثوار) سورية في استدعاء حلف الناتو طبقاً لسيناريو ليبيا الكارثي ذاته، ثم يؤكد، من دون رعشة ضمير أو رفة وجدان ، في الحوار ذاته، أن على الغرب ألا يقلق من صعود الإسلاميين للحكم في البلاد العربية،لأنهم سيكونون (عاقلين) في التعامل مع… إسرائيل!

هذا الحوار يختصر الأمر كله، ويفكّ جميع الألغاز والطلاسم الموجودة. فالقرضاوي يحرّض على النظام الوطني والمعادي لإسرائيل في سورية، ويسعى لإسقاطه بكل السبل ومهما كلف الأمر، ويبدي تصلباً كاملاً وعداءً مطلقاً لأي حوار بين صبيته من الإخوان وبين النظام. وبالمقابل فإنه يعد الغرب بأن أنصاره من الإسلاميين لن يزعجوا هذا الغرب قط، وسيظلون( عاقلين) حتى مع إسرائيل ذاتها! كما كان هو عاقلاً لعقود طويلة مع الحضور الأمريكي العسكري في قطر!

بدأنا الحديث بالعودة قرناً كاملاً إلى وراء، للحديث عن الإسلام المتسامح والمنفتح والجهادي الحقيقي، ووصلنا إلى اللحظة التي أنتج فيها إسلام أمريكي الهوى، إسرائيلي المضمون، خليجي القشرة، مطعّم برائحة النفط ولزوجته الدبقة!

 فما الذي حدث خلال هذا القرن من الزمان؟

من جديد عليك أن تفتش عن النفط، ومشيخاته المبعثرة على رمال الصحراء العربية الجنوبية، التي أنتجت إسلاماً على شاكلتها، خالي الدسم، (مسحوب الخيرات) كلياً، مفرّغاً من كل مضمون حقيقي، وموالياً للغرب بالكامل، وشرساً فقط تجاه قوى المقاومة الحقيقية في المنطقة، التي تسعى بالفعل لاستعادة حقوق العرب التي سُرقت منهم على امتداد أحقاب طويلة!

بين إسلام المجاهد عبد القادر الجزائري الذي لجأ إلى دمشق بعد نهاية مأثرته الشجاعة في الجزائر، أو خلفه الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي نحفظ له مقولته الجوهرية (والله لو طلبت مني فرنسا أن أشهد أن لا إله إلا الله لما فعلت)! أو تلك السلسلة المشرقة من رجال الدين الإسلامي الذين قادوا الثورات والانتفاضات بوجه المستعمر الغربي (الشيخ عمر المختار، عبد الكريم الخطابي، الشيخ صالح العلي، الشيخ عز الدين القسام، الشيخ أحمد ياسين، السيد حسن نصر الله).

بين هذه الكوكبة اللامعة في تاريخنا المعاصر، وبين (شيوخ الناتو) البارزين اليوم، ترتسم أمامنا ملامح قرن عربي كامل، قرن من الضياع والتيه والتخبط والنهش الداخلي المتبادل. قرن بدأ واعداً وخصباً ويانعاً، وانتهى كابوساً حقيقياً، يضيِّق علينا أنفاسنا ويسمّم الهواء المتجول فوق هذه الأرض العربية المنكوبة. بعد أن تحكم النفط بالقرار السياسي العربي، وهيمنت الصيغة السعودية – الخليجية للإسلام المغلق على كل مناحي حياتنا، فيما يوشك على الغياب اليوم ذلك الإسلام الحضاري المتسامح والمنفتح على الآخر، والذي تمكن محاورته وحتى الاختلاف معه دونما خوف من طعنة سكين غادرة كما حدث مع نجيب محفوظ، أو مما هو أدهى، من قتل وحرق وتقطيع للجثث وتمثيل بها، كما يحدث في عدة محافظات سورية اليوم ، على أيدي تلامذة ومريدي الظواهري والقرضاوي والعرعور!

إذن فهذا ما حصده المشروع النهضوي العربي بعد قرن كامل، أن تُسلَّم مراكز النهضة العربية زمام أمورها ومصائرها ومستقبلها، لتتحكم فيها مدن الملح النفطية، وأموال البترودولار العطنة، والإسلام المغلق والمطبوخ في مراكز السي آي إي والموساد!

والأدهى بكثير أن ينضم بعض من كان يمثل هذا التيار الواسع من مثقفي اليسار والعلمانية والتنوير إلى الطابور ذاته، بحيث يتخندق برهان غليون وعزمي بشارة وغيرهما في الخندق ذاته مع القرضاوي والعرعور! وعبثاً تفتش عن سبب منطقي وعقلاني لما يحدث، فلن تجد سبباً سوى رائحة النفط ورنين البترودولار!

العدد 1105 - 01/5/2024