أحلام… وأغانِ قادمة

للوطن رائحة البخور، والمجامر أوسمة من نور. فوقه تعلّق الثريّات وتتلألأ، وعلى بواباته رسوم وكتابات لا تراها العين قيل أن تفكّ السحر. والسحر لا يُفك بالبسملة والتعاويذ، وإنما بالتحديق إلى البعيد، وبالمقدرة على رؤية خوذة جندي يقضي الليل ساهراً على بعد آلاف الأميال. من يستطع ذلك يحقّ له الدخول إلى حيث يفتح القلب مداخله نابضاً بالمحبة والخير والسلام، ومن لا يستطع ذلك فليتنحّ جانباً، أو فليعد، لأن النبض يتحوّل حينذاك رصاصاً صارخاً بالقتل.

لمواكب الشهداء رائحة عطر الأعراس، وللشهيد رائحة آسٍ ندي. عندما لا يكون للموت معناه يصير الشهيد عريساً، والبكاء أهازيج فرح، ويكون للفقد القدرة على الاختزال، اختزال العمر البشري منذ الطفولة حتى تشيخ الكلمة على فم عجوز بنظرة متحدّية، أو بشرود لبؤة جريحة. هنا معابر الأناشيد الجنائزية بين جبال لا توحّد سوى الخالق الأوّل، ولا تمجد سوى الذين يجعلونها أكثر اتّساعاً حين يعبرون ممتلئين بالأغاني ورائحة الآس.

لم يعد للمقابر رائحة الموت، بل تتسع الأماكن على ضيقها لتحتضن بيارق ملونة، ومرصعة بالنجوم الخضر، وبالقبل الحارقة على جبين مثلج. قطرات المطر تتساقط من على سنديان عميق في الزمن، الآيات مكتوبة على الجذوع بقدرة الخالق، والاخضرار يتصاعد إلى أعلى… فأعلى.

هي السنوات العجاف، وهو التحدّي، تأتي فيصدّها لاعناً أمراءها، ورافعاً بوجهها ألف صرخة: لا. لن تمرّ كما تريد، بل كما يريد المكان. للوهلة الأولى يخيّل للمراقب أنها سطوة السنين، ولكن ما هي سوى غمّة وتزول، هكذا يقول العجائز الحكماء، فكم مرّ على هذه البلاد من أقوام حملوا معهم موتاً، لكنه سرعان ما ارتدّ عليهم، فهلكوا، وبقيت البلاد رافعة شرفاتها للضوء، صادحة بمواويل العشق، عشق الأرض، والتضحية في سبيلها، ومازال عبور العابرين يتتالى، والأناشيد تجدد معانيها بحدّة أكثر، وإصرار على استقدام أيام سمان.

لمدافئ الحطب رائحة تاريخ ممتلئ بمواقد الشتاء، مواقد مباركة، نثر حولها الشيوخُ تسابيحهم، وتشيطن الأطفال أمامها دافعين أحلامهم إلى الأمام هرباً من عصا عجوز لم يعد يحتمل تلك الفوضى، فأرسل شتائمه، وأردفها بأدعية تحفظ الأهل والصغار، وتصونهم من أبالسة الأرض، تماماً كما تصون الأرض من شياطين الإنس.

هنا في هذه الأرض لا يعمّر الناس طويلاً، ولا يعترفون بأزمنة تأتي مخالفة لقناعاتهم، فالسنة عندهم تبدأ بالعيد، وتنتهي بالعيد، وبين العيدين أعياد أخرى، تتوالد، فيتعاظم الخير بتعاظم التقوى. وما الدنيا سوى الأرض بمفرداتها كلها، جبال ووديان وحواكير، أسطحة وحقول ومزارع. هنا تتشكّل الذاكرة بطريقة مختلفة، والانتماء إلى الوطن له أيضاً معنى مختلف، معنى يستشرس الناس حين يُمسّ، وتقوم ألف حرب وحرب على شبر تراب.

للطفولة عنفوان أعاصير صغيرة، تنتهي حيثما تبدأ، لكنها ترسل آياتها إلى زمن قادم، فتغمره بالمعجزات والأساطير. وحين تُخرج الأرض أثقالها سيكون للأطفال بيوتهم الصغيرة، يخرجون منها مبتسمين، يهللون لوجوه آبائهم المعفرة بتراب قديم، ولأكتافهم الممتلئة بنجوم خُضر، حينذاك تنضج تلك الأعاصير الصغيرة، وتحمل إلى الحواكير الضجيج وقد هدأ، والصخب وقد استكان واستوى على شكل قرية صغيرة، لكنها أكبر بكثير من مقبرة، وأصغر بكثير من أحلام تناثرت ذات طفولة حول موقدة مسكونة بألف دعاء ودعاء.

العدد 1105 - 01/5/2024