انبضي في خلاياي

مثل صعقة الجنون رشقتني سهام ما أدركت أنها قاتلتي، فأيقنت أنني بين ذلك السحر الدافئ، والرعشة الخجولة رأيت ذاتي، فقلت في نفسي، هي آسرتي.

في مساحات الأمكنة المخبأة في صحائف القدر، لم أرَ غيرها.! ولم أسمع غير همسها، عشت ألتقط كل حرف يسقط من بين شفتيها، وأحاول أن أغوص وراء الكلمات، ووراء العينين السوداوين، علّي أكتشف مكنونات ما وراء تلك الأنثى التي شدّتني بكل ما فيها من ألق وحزن وحيرة.

تأخذني الكلمات بعيداً على صدى نظرة مارقة سكبتها بين صخب الجالسين، وأودعتها صفحة وجه ملائكي ما نطق بشيء بل أخذني إلى غابة ضياع لم أعد أجد فيها نفسي.

أيتها الساحرة ماذا فعلتِ بي.؟

وأنتِ.. أنت ملهمتي الآتية على جناح يمامة بيضاء، أطيّر لها حلمي فتبتعد عن مراسي بحثي إلى فضاءات معفّرة بالضباب الرمادي، وخربشات فنان على جدران مكان ينبض بمن كانوا يقيمون فيه،  فكيف تتدفّق حروفي كحبّات عقيق من بين أصابعي، وترجف برّاقة على سنّة قلمي.؟

أيتها الساحرة، تأسرني جرار العسل، فهل تراني أرشف حلاها ذات يوم؟ ثم لن تتفرجي على سحر الشِعر الآتي منكِ إليّ فقط، بل تسكنيني وتقيمي في خلاياي، وترقصي ولهاً على طرف لساني.

يا غاليتي البعيدة، القريبة، كيف أستطيع أن أنتزع من صدرك كل الأشياء، ثم أمتلكها وتصبحين لي!؟

وأنتِ حلميَ الآسر، وحدكِ بين كل إناث الأرض، ينبض لك خافقي وجيباً حدّ الصراخ، فهل تسمعين أنين كبدي.؟ أم تُراك تختصرين في بياض روحك وبوحك وتفاصيلك وحناياك كل إناث الأرض.!

أراك بين أشيائي، مليكة متوّجة على مراياي، بين أصابعي، في أوراقي، على جلدات كتبي، بين الرمش والرمش، وكلما أطبقت جفنيّ ترسمين لي الحلم فلا أرى سواكِ.

فهل أنت شيء يشبه القصّة، أكتبكِ وأكتبها وأحار، أأهديها إليك أم إلى الحروف التي سالت من بين شفتيك كينابيع اللؤلؤ، انسابت مثل دفقات الندى لتخطر على الورق وتشكل أبهى اللوحات، فأوقعت روحي في بحيرة الصفاء.!

هي لكِ وحدكِ، هل تسمعين همسها؟ إنها تخفق باسمك، فتنشر عطرها الساحر على مساحة لهفتي، تقول بين الحرف والحرف، أنت ضالتي التي أنشد، وأنت المنارة التي بَحَثت عنها مراكبي مسيرة عمري، وهل أجرؤ أن أسمّيك ذاك الأمل وذاك الحلم وذاك الميناءِ!لو ترسلين لي من بريق عينيك ذلك الشوق الموشى بضفائر الرهبة كي أزرع بينهما مقامي، وأقيم.! فهل تمنحيني فسحةً لروحي المتعبة تهدأ على شاطئك.؟

لك أنا، لأنني أجدك لي.

جافانا القدر طويلاً، لكنه في لحظة رضا وضعنا أمام قدرينا، أنت لي، وأنا لكِ حتى أقصى شغاف الروح، فهل تريدين أكثر؟

إذاً خذيني من ذاتي، وازرعيني بين نبضيك نبضة تخفق بالحياة، وادفنيني على ساحة صدرك، فهناك يحلو لي السكن والولادة والموت، وأبقيني أيقونة وفاء نتراقص على نغماتها لأنها لنا.

يسافر صوتي عبر الغابات المكتظّة بالأحلام، حَمَلَتهُ قبيلة نوارس من صدري، وحطّت به على صفحةِ غيمات داكنة، يا ويلي لم تمطر.. لم تمطر!

أعلنتُ السفر إلى أرض أبعد من سلسلة الأوراس، وأعمق من بحر تطغى غضبته فتبيد الأحياء، أوسع من صحراء مجدبة يبّست صدور المقهورين، ثم تلاشت دون عطاء.

سكبتْ فوق يباس رمالها دمعة، ونقطة دم، وعادت.!

تسرّبتْ من تحت جفنيّ، ثم نامت بين أصابعي، هَدهَدتُها ببريق الكلمات فذوّبتني ولم تذبْ.

يا سيدة الحلم، لماذا أنتِ؟

تأتين كما تأتي في العتمة أطياف عيونٍ لا تنعس، كانت تبحث عنّي منذ قرون، وأنا في العتمة وحدي أجترّ البؤس.

ضاعت أيامي وأنا أبحث عنكِ، أبوحُ إليكِ، إليها.. تلك الغيمات، أسألها لو تقطر فوق يباس العمر ندى، لو تُدخلني في خفق اللحظات.

يا عمري، لو أسكن في أصغر برعم وردة، أتنفّسها، تتنفّسني، لا فرق ما دمت إلى هذا الحدّ من القرب، حتى لتحاري أيهما أقرب من بؤبؤ عينٍ ساهرةٍ لم ترمش، تخاف إن رمشت أن تُضيّع ذرة زمنٍ تحمل بسمة، ومضة، بريقاً، تلقي في سرداب اليأس بصيص أمل!

تعالي، صدري يتّسع لآهات بلادي المذبوحة.

تعالي، نزرع جذر الزيتون المقلوع على مقتلنا.

تعالي ننزرع على سفح التلّ، أنا وأنتِ.. يومئذ يا عمري لن تجزعي من سطوة الخوف.

يومئذ سأعرف من أنتِ، ولماذا أنتِ.!

انزرعي في صدري، في أرضي، وازرعيني في أيّ مكان منك قريب.

ونقوم، حين تقوم الناس فرادى وجماعات، نقوم مع الزيتون، نقوم، نرفع ما يسكننا فوق نزيف الشقائق الحمراء النابتة بالآلاف.

ونكتب على الخشب الأخضر المنتصب كالقضاء سطراً واحداً، واحداً فقط:

 اليوم يموت الخوف، وينتصر الحب..

العدد 1107 - 22/5/2024