أزمة قبرص المالية… الخلفيات ومحاولات الخروج

تبحث قبرص / اليونانية/ في هذه الأيام عن خطة بديلة من أجل إنقاذ نفسها من إفلاس كارثي لقطاعها المصرفي، وإن كانت الآمال في حصولها على قرض فوري من موسكو ـ وهو اقتراح قدمه وزير المالية القبرصي (ميخاليس ساريس) إلى المسؤولين الروس في العشرين من آذار الجاري ـ قد بدت مؤخراً ضئيلة جداً. وقد رفض المشرعون في العاصمة القبرصية نيقوسيا يوم الثلاثاء 19 آذار صفقة أثارت جدلاً واسعاً تقضي بفرض ضرائب على أموال المودعين في الجزيرة، وذلك من أجل الحصول على حزمة الإنقاذ المالي من الاتحاد الأوربي. صوّت ضد هذه الصفقة 36 مشرعاً، وامتنع عن التصويت 19 آخرون، وبضمنهم بعضُ المنتمين إلى حزب التجمع الديمقراطي اليميني الوسطي الذي يقوده الرئيس القبرصي (نيكوس أناستاسيادس). إلا أن إمكانية استهداف حسابات مصرفية خاصة من جانب إحدى الحكومات أثارت اهتماماً عالمياً كبيراً في الأيام الأخيرة.

وفي هذا السياق، وصفت مجلة (الإيكونوميست) الضريبة المقترحة بأنها (مصادرة للأموال)، وحذّرتْ من إمكانية أن تؤدي المشكلة القبرصية إلى أزمة أكبر حجماً بالنسبة للعملة الأوربية الموحدة. تقضي الصفقة بأن يدفع المودعون في قبرص الذين تصل ودائعهم إلى 100 ألف يورو ضريبة لمرة واحدة تُقدّر بنحو 75,6 بالمئة. أما الودائع التي تفوق هذا المبلغ، فستصل قيمة الضريبة عليها إلى 9,9 بالمئة. ويبدو أن هذا الإجراء سيطول الودائع والحسابات الجارية على حد سواء، مع أن التفاصيل لم تتضح بعد، إذ يجري التفاوض حالياً على صفقة معدلة تقضي بأن تدفع الحسابات الضخمة مبالغ أكبر والحسابات الصغيرة ضريبة أدنى. يقول مارك وليامز، مدير الموقع الإلكتروني (مغتربو قبرص): (صدمنا هذا الخبر، وما عاد الناس يملكون المال لشراء الطعام).

فما الخطأ الذي ارتكبته قبرص؟

قبل وقت ليس ببعيد، امتدح كثيرون قبرص باعتبارها موطن معجزة اقتصادية صغيرة، فقد وصف صندوق النقد الدولي أداء هذا البلد قبل عام 2008 بأنه (مرحلة طويلة من النمو الكبير، وتراجع البطالة). ولكن في عام ،2009 عانت قبرص الركود، إلا أنه كان الأقل حدةً في منطقة اليورو. كانت السياحة ناشطة، مع تدفق السياح البريطانيين إلى شواطئ هذه المستعمرة السابقة وشرائهم عقارات مطلة على البحر. على حين ازدهر قطاع المصارف، ولكن على غرار الدول الأخرى المتعثرة في جنوب أوربا، أخفت قصة النجاح هذه مواضع خلل كبيرة. خلال العقد المنصرم، اكتسبت قبرص سمعة أنها مركز لتبييض الأموال. فكان آلاف الروس من بين الزوار الأجانب الكثر الذين تقاطروا إلى هذه الجزيرة. استقر خلال العقد الماضي عدد من هؤلاء الروس في قبرص واشتروا منازل ثانية فيها، حتى إن مدينة (لفكوشا)، المركز المالي، باتت تُعرف بـ (ليما-غراد)، كذلك صارت تضم متاجر فاخرة لأهل موسكو، وشركات لتأجير سيارات (البورش) بدل (الفيات باندا)، وثلاث صحف تصدر باللغة الروسية.

على غرار موناكو، تحوّلت قبرص عندئذٍ إلى جزيرة مشمسة لشعب مثير للجدل، يقول (كولن سميث)، وهو مؤرخ عسكري يقطن في قبرص منذ سنوات: (ترى فتيات يتمتعن بأرجل طويلة، ورجالاً يصرون على وضع النظارات الشمسية حتى في شتاء قبرص القاتم، يملكون منازل ضخمة غير جميلة تسبب الكثير من الإزعاج لأنها تحجب المناظر الجميلة وتسبب مشاكل جمة. لكنهم لا يترددون في توزيع الأموال ليحققوا مآربهم). يقدّر كثيرون أن نحو 20 ملياراً من السبعين مليار يورو المودعة في قبرص، البالغ عدد سكانها 800 ألف نسمة فقط، تعود إلى الروس. ساهمت هذه الودائع في نمو القطاع المصرفي كثيراً، وبحلول عام ،2011 أشار صندوق النقد الدولي إلى أن أصول المصارف القبرصية تفوق دخلها الوطني السنوي بنحو 835 بالمئة. صحيح أن هذا الواقع عاد في جزء منه إلى استثمارات المصارف الأجنبية، إلا أنه كان في أغلبه قبرصياً.كان من الممكن الحفاظ على عدم التوازن هذا لو أن أكبر مصرفَين في البلد لم يقدما للحكومة اليونانية قروضاً تعادل 160 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي القبرصي. لم يتضح ما إذا كانت هذه الخطوة نابعة من التضامن القومي مع اليونان أو من الافتراض أن اليونانيين كانوا يعرفون جيداً ما يفعلونه.

حين اقتُطعت قيمة الديون المترتبة على الدولة اليونانية بنحو 75 بالمئة، تلقت المصارف القبرصية ضربة قوية، فعلقت الجزيرة في دوامة سلبية معروفة: تفاقمت أوضاع الحكومة المالية الضعيفة بسبب تراجع النمو الاقتصادي واضطرابات منطقة اليورو، فساد التوتر الأسواق المالية، التي ترددت في إقراض المال، كذلك شهدت أسعار العقارات انخفاضاً كبيراً، وتوقفت أعمال البناء، باستثناء الأعمال التي كانت تُجرى على منازل الروس الفاخرة الضخمة.

وكان الرئيس القبرصي السابق (ديمتري كريستوفياس)، الزعيم الشيوعي الذي تدرب على يد السوفييت ليرأس الحزب الشيوعي القبرصي/ الحزب التقدمي للشعب العامل/، قد رفض تطبيق تدابير التقشف. كما أعلن في مرحلة لاحقة أنه لا يرى أي داعٍ لأن تمتلك الحكومات فائضاً، وواصل تمسكه بالسياسة التقليدية القبرصية القائمة على إنفاق الكثير من المال على الرعاية الصحية والتقاعد.

الأوليغارشية الروسية نحو ملاذات آمنة أخرى

اليوم مازال القبارصة في حاجة إلى نحو ثمانية مليارات دولار، وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم في حالة إفلاس. وفي تلك الحالة، ستكون قبرص أول عضو في منطقة اليورو يلقى هذا المصير. والحال أن الجزيرة الصغيرة كلها لا تمثل سوى 2 بالمئة من اقتصاد منطقة اليورو القوي، غير أن حاجتها إلى إنقاذ مالي عاجل، وكذلك طابعها الخاص كملاذ كبير في الخارج لأعضاء الأوليغارشية الروسية المتشكلة بعد غياب الاتحاد السوفييتي، يثير تكهنات بأن كل عجز عن الوفاء بالالتزامات المالية للجزيرة سيكون أشبه بعرقلة لآلية اقتصاد الاتحاد الأوربي، خاصةً في وقتٍ أخذ فيه الحديث عن (أزمة منطقة اليورو) يتراجع تدريجياً، أقله في وسائل الإعلام. الكاتب الاقتصادي والأكاديمي الشهير (بول كروغمان) أشار  في مقالة رأي بصحيفة (نيويورك تايمز) إلى تقرير شامل نشرته صحيفة (فاينانشل تايمز) الاقتصادية، يسلط الضوء على خاصية قبرص كملاذ خارجي للروس، ويتكهن بأن أعضاء الأوليغارشية الروسية سيدركون قريباً أنهم ليسوا في حاجة إلى قبرص وأنهم يستطيعون إيجاد ملاذات آمنة في أماكن أخرى

البديل عن إنقاذ مالي عاجل سيكون أسوأ بكثير

كنب (سوني كبور)، من مركز الأبحاث (إعادة تعريف) الذي يتخذ من بروكسل مقراً له، يقول: إن رداً على الأزمة القبرصية يثير المخاوف بشأن إمكان أن تسبب سقوط اليورو، هو رد فيه الكثير من المبالغة، وذلك على اعتبار أن كلاً من إسبانيا أو إيطاليا ليست في نفس الوضع الذي توجد فيه قبرص، ولا تعانيان أزمات من النوع الذي تتعرض له المصارف القبرصية. كما يشير (كبور) إلى أن البديل لحالة العجز عن تسديد الديون السيادية سيكون أسوأ بكثير، لأنه من غير الممكن تصور نظام مصرفي آمن في بلد ذي سيادة يخضع لإعادة هيكلة الديون. ولعل معظمنا مازال يتذكر كمية الرساميل التي احتاجتها المصارف اليونانية بعد أن عجزت عن الوفاء بمستحقاتها المالية. والواقع أن قبرص ما كانت لتحتاج إلى إنقاذ مالي لو أن مصارفها لم تتكبد خسائر كبيرة بخصوص ممتلكات الدين اليوناني، يضاف إلى ذلك المشكلة المتمثلة في أن نصف السندات السيادية القبرصية تخضع لقانون أجنبي (بريطاني) يجعل من إعادة هيكلة ناجحة للدين السيادي أكثر صعوبة. يضاف إلى ذلك أن مصارف قبرص تمتلك حصصاً كبيرة من سنداتها السيادية، ولذلك يمكن القول إنها ستتعرض لمزيد من الإفلاس نتيجة أي عملية إعادة هيكلة لديونها السيادية.

العدد 1105 - 01/5/2024