صراعٌ سلمي

في هذا السياق تحضرنا أقوال شتى تؤكّد مقولة المحور المعتمد في هذه الصفحة…جبران يقول وتغني فيروز: أولادكم ليسوا لكم.. أولادكم أبناء الحياة…

وفي قول منسوب للإمام علي: ربوا أولادكم على غير ما ربُيتم عليه، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم… تتواتر أقوال المفكرين والفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين، لتؤكّد على مقولة ترك الأجيال الجديدة تصنع حكايتها المختلفة عن حكايتنا.

تلك حكاية جديدة، صفحة جديدة، لا يمكن لصفحة حياة أن تُعاد، أو لا يُعيد التاريخ نفسه، وإن فعلها تكون مأساة في المرة الأولى ومهزلة في الثانية على حدّ قول المعلم ماركس… كل ما سبق صحيح، والجديد يطرد القديم شئنا أم أبينا، الحياة ثورة مستمرة، فالبراعم الخضراء الجديدة تنمو، بينما تكون الأوراق الصفراء قد تساقطت وأصبحت سماداً للأرض، الزهرة التي تكون أجمل ما تكون في موسمها تتفتت تويجاتها وتنمو مكانها ثمرة لا تلبث أن تجد طريقها إلى الموائد أو المعامل لتستمر دورة الحياة…

لكن، ولا بدّ من لكن هذه كل مرة ـ هل يعني ترك أولادنا يقررون طريقة حياتهم وأخلاقهم وعاداتهم، وأن لا علاقة للأهل بالمطلق في خيارات الأبناء؟ لا أعتقد ذلك. لا أظنُّ أن أيّ مُنَظّر أو مربٍّ أو فيلسوف، يقصد أن يقوم الصبي الذي يدق أبواب الرجولة باختيار نمط حياته وسلوكه بحرية مطلقة، بل ادعي انه لا حرية مطلقة أساساً، إذ تنتهي حريتك عندما تبدأ حريات الآخرين…

هذا التوازن الحسّاس بين ترك الجديد يأخذ مكانه ومكانته لدى أبنائنا مع ترك شعرة معاوية بيننا وبينهم، بين التبعية الكاملة للآباء التي يريدها الكثيرون وبين الانفلات الكامل من التوجيه والرعاية، أو الحوار الذي يريده الأبناء على الأقل، هذا التوازن هو أفضل الحلول لهذه المعضلة التربوية المستمرة على مرّ التاريخ البشري.. الحوار مع الأبناء، الحوار الذي يعطي الابن مساحة كافية ومتكافئة مع الأب، الحوار الذي لا يأخذ شكل التوجيهات والنصائح التي تُنفِّر الشباب كثيراً، هو ما يمكن أن يرمّم الهوّة بين جيلين مختلفين، والحوار هو في جوهره صراع سلمي حضاري، أي أننا ننقل ما يُسمى بصراع الأجيال إلى ساحة أقل ضرراً.

قد لا يُثمر هذا الحوار توافقاً أو حلولاً وسطاً بين الآباء والأبناء، قد يُعاند الابن على أفكاره وخياراته، وهو ما يحصل غالباً، لكن استمرار الحوار الهادئ والابتعاد عن العقاب والقسر هو الحل الأنسب للتعامل مع (طيش) الأبناء…لنتذكر أننا كُنّا شباباً يوماً ما، وكُنّا نعاني الصراع نفسه مع آبائنا، وكُنّا نتأفف من أيّ تدخل لهم في أبسط شأن من شؤون حياتنا، لباسنا، تسريحة الشعر، أصدقائنا، المأكل والمشرب… الخ.

سأذكر مثالاً واحداً عن الموضوع، وهو تدخين الأبناء.

معظم مُدخّني هذه الأيام بدؤوا رحلتهم مع السيجارة بسرية وخفية عن آبائهم، وبعضهم بقي لا يُدخّن أمام أبيه حتى رحل، علماً أن كليهما يعلم أنه يُدخّن، ويُصرّ الكثيرون على أن احترام الأب يقتضي أن لا أدخّن أمامه رغم معرفته بأني أدخّن، وربما يدفع لي ثمن علبة سجائري!!

أظن أن الحالة هنا نموذجية لطريقة التفكير والحل، إذ على الأب هنا أن يُشجّع ابنه على إعلان عادته السيئة هذه، لكنه يبقى في حوار دائم معه عن أضرارها عليه وعلى الآخرين دون لعب دور الناصح، خاصة إن كان الأب مُدخّناً.

ولا يمنع هذا أن يركّز في حواره معه على أضرار الدخّان على هذه المرحلة العمرية مثلاً، مع إيراد أبحاث طبية وعلمية وأدبية رصينة ـحسب اهتمامات الابن، وتسريبها إليه بشكل عفوي قدر الإمكان… أو إتباع أي طريقة حوار يراها مناسبة حسب واقع الحال.

العدد 1107 - 22/5/2024