للذاكرة فضاؤها أيضاً

آليات التذكّر متعددة، منها ما يتّصل بطبيعة الأشياء والأحداث، ومنها ما يرجعه المختصون إلى الحالة الصحية للشخص، وتحديداً حالته النفسية والذهنية. وعلى الرغم من غياب تلك الآليات عن الإدراك فهي بالتأكيد موجودة، وإلاّ لما عدنا إلى الماضي بهدوء في حالات من الصفاء الذهني، ورغبة بالعودة تؤكّد أننا في حالة نفسية مساعدة على استحضار أحداث، كأنها أمامنا الآن، أو أشياء كأنها ملك أيدينا.

وليس بعيداً عن التحليل العلمي أيضاً ما نقوم به الآن من أعمال رغبة منا بأن نترك لأجيالنا القادمة أن تتذكّرها، وهذا يتداخل أيضاً في بعض جوانبه مع ما يفرزه صراع الوجود كمبدأ طبيعي ينبني عليه وجود هذا الكون بجوانبه وتشعّباته كلها. نحن نتذكّر إذاً نحن موجودون، ونحن نفكّر، ونحن كائنات فاعلة ومنفعلة، ونحن كائنات لها ماضٍ، وسيكون لأبنائها مستقبل. ومن هذا المنطلق يقودنا التفكير بما سيتذكّره أبناؤنا وأحفادنا من بعدنا.

ولا شكّ أن تعقيد الأحداث يتطلّب آليات تذكّر مركّبة ومعقّدة، إذ لن يعود الاسترسال كافياً للاستحضار، ولن تعود الرغبة بالتذكّر كافية لسحب ما نريد من فضاء يغصّ بما هو قابل للتذكّر بمشقّة وعناء. وما نتذكّره من أشياء ما هو سوى جزء يسير مما حدث بالفعل، وحين نعلم أننا قادرون على استحضار كلّ ما جرى، ندرك كم نحن مقصّرون في تدريباتنا الذهنية، كما نحن مقصّرون في تشكيل ذاكرة أبنائنا وصقلها، وهذا يشتمل أيضاً على الإحساس بتقصيرنا بشكل عام في مختلف ميادين الحياة.

الجغرافيا والتاريخ محوران في هذا الوجود يكادان لا ينفصلان، هما في اتّحاد دائم، فالتاريخ هو مجمل الأحداث التي جرت على جغرافية معيّنة وليس في فراغ، والجغرافيا هي التوزّع الطبيعي لمفردات هذه الأرض في حقبة تاريخيّة معيّنة. وما اندماج الجغرافيا مع التاريخ سوى حكمة من خالق هذا الوجود، حكمة تعلّمنا حين نريد أن نتعلّم، أننا محكومون بعلاقات نجهل معظمها، علاقات تشدّ مصائرنا إلى حيث يريد الخالق، فنحن لا نموت بإرادتنا، ولم نأتِ إلى هذا الوجود بمحضِ إرادتنا أيضاً. هناك سرّ في هذا الكون لا يعلمه غير خالقه.

وإذا كنا نستطيع إيجاد أثر في اتّساع الكون هذا، فذلك يتوقّف على عمل جمعي ومشترك للجنس البشري كله، أو معظمه، فالحروب الصغيرة لا تشكّل الأثر المقصود والفاعل والمؤثّر، ولا اختراع علمي واحد مهما عظم شأنه يحمل أيضاً التأثير إلاّ من خلال استناده إلى اختراعات سبقته وانتهت إليه. فحين نتذكّر اختراعاً ما نتذكّره منفصلاً عن غيره، وحين نتذكّر حرباً كبرى نتذكّرها أيضاً بمعزل عن الظروف والعلاقات البشرية التي أدّت إليها. وحين نفعل ذلك نفعله من باب الاستسهال، ومن باب تجنّب الدخول في متاهات غير مريحة، على الرّغم من أن تلك التفاصيل هي من الأهمية بمكان يجعل البحث عنها ضرورياً لمعرفة الحقائق كاملة، والحكم من خلال المعرفة الكاملة على قيمة الحدث ذاته.

ذواكر الأطفال تتشكّل الآن بمعزل عن إرادتنا، يشكّلها الشارع والتلفاز، المدرسة والحديقة. كيف سنتحكّم بهذه المفردات إذاً؟ وكيف نستطيع أن نتحكّم؟ وهل تحكّمنا صحيح وإيجابي أم لا؟ هو جانب تربوي بامتياز، وعلى المؤسسات المعنية التفكير جيّداً بما هو مفيد لبناء ذاكرة قادرة على المحاكمة العقلية، قادرة على التحليل والتركيب، على الاستقراء والاستنتاج الصحيحين، ذاكرة معافاة تستطيع أن تنتج وتتحكّم في الأحداث المستقبلية بناء على ما اكتسبته من تعليم، ذاكرة لا تنقاد وراء ما تسمع فقط، وإنما تحلّل وتركّب، وتكتشف الأخطاء قبل حصولها الكارثي. هكذا نستطيع أن ندخل المستقبل من أبوابه الواسعة دون أن تجرفنا الأحداث في تيّاراتها المدمّرة.

العدد 1105 - 01/5/2024