صفقة «إنقاذ قبرص» والآثار الجانبية الخطيرة

استأنفت المصارف القبرصية نشاطها يوم الخميس الماضي، وذلك بعد نحو أسبوعين من تعليق أعمالها، بسبب الأزمة المالية الحادة التي تطلبت اتفاقاً قاسياً مع (ترويكا الدائنين الدوليين: المفوضية الأوربية والمصرف المركزي الأوربي وصندوق النقد الدولي) على خطة إنقاذ طارئة تُمكن الجزيرة من تفادي الإفلاس والبقاء في منطقة اليورو. في تفاصيل الاتفاق: تحصل قبرص على مساعدة بقيمة 10 مليارات يورو، مقابل إعادة هيكلة القطاع المصرفي القبرصي المتضخم جداً بالقياس إلى اقتصاد البلاد. كما يقضي الاتفاق بإغلاق مصرف  لايكي ثاني أكبر مصرف في البلاد، وفرض ضريبة تصل إلى نحو 30 بالمئة على أصحاب السندات والودائع ما فوق الـ 100 ألف يورو، أما أصحاب ودائع ما تحت الـ 100ألف يورو فلن يخضعوا للضريبة. وقد فرض المصرف المركزي القبرصي قيوداً صارمة على سحب الودائع، وحركة الرأسمال، وحدد بموجبها السقف الأعلى للسحب اليومي من الودائع بـ 300 يورو، والتحويل إلى الخارج بـ 500 يورو في الشهر الواحد، كما منع صرف الشيكات.

 يقول (يوهان فان أوفيردفيلت)، رئيس تحرير مجلة (تريندس): (ابتعدنا عن سيناريو (إنقاذ قبرص) إلى سيناريو (سحب أموال) من مساهمي المصارف القبارصة وأصحاب الودائع. إننا ندشن الآن آليةً للسيطرة على الرأسمال تناقض مبادئ الاتحاد النقدي، وإذا استمرت القيود الصارمة على سحب الودائع وحركة الرأسمال وصرف الشيكات لبضعة أسابيع فقط، فعلينا أن نرى ماذا سيحدث لاحقاً. لكن إذا تواصلت لفترة أطول من ذلك، فسيكون لدينا وضع جديد أخطر من الحالي. وحتى ذلك الوقت يتعين علينا أن ننتظر رد فعل الأسواق والمساهمين والمستثمرين على حقيقة أن قبرص في طريقها لأن تصبح دولة معزولة في منطقة اليورو)، وعندئذ سيتم البحث عن، والتحول إلى ملاذات ضريبية أخرى.

مبادئ اختيار الملاذ الضريبي

غالباً ما يُعزّي الفقراء أنفسهم بأن الثراء لا يجنب أصحابه الصداع والتوتر، كما تبين مراراً وتكراراً بعد الأزمات المالية المتعاقبة. وآخرها الأزمة التي ضربت جزيرة قبرص المتوسطية، وتحديداً الشرط اليوناني، والتي جعلت أصحاب الودائع الكبيرة يفكرون ملياً أين سيذهبون بثرواتهم، أو ما يبقى منها هرباً من الجزيرة المنكوبة التي فقدت جاذبيتها كملاذ تتمتع فيه الرساميل الأجنبية بتسهيلات ضريبية مجزية.

في مثل هذه الظروف، فإنه لدى اختيار ملاذ آمن جديد، أو كما يدعوه البعض (الجنة الضريبية)، ينبغي النظر إلى توفر عدة عوامل، لعل أهمها: حجم الدين العام في البلد، والتصنيف الائتماني له، وأسلوب تبادل المعلومات بين الملاذ الضريبي والدولة التي يأتي منها الرأسمال، وخاصة لجهة تجنب ازدواجية التكليف الضريبي. هناك دول ستتجنبها الرساميل، كبلدان منطقة اليورو المتعثرة: إسبانيا وإيطاليا والبرتغال. بالمقابل، ثمة بلدان تقدم تسهيلات مهمة للأموال القادمة، ومنها بلدان أوربية خارج منطقة اليورو، أي لا تخضع لسياسة المصرف المركزي الأوربي، مثل سويسرا وبريطانيا.

 أما في جنوب شرق آسيا فأشهر ملاذين هما سنغافورة وهونغ كونغ. على أي حال، لا تزال هناك عشرات البلدان تقدم تسهيلات للأموال الأجنبية. أما أكثرها جاذبيةً، فليست جزيرة نائية في أقاصي البحار، بل هي جزيرة (مانهاتن) في قلب نيويورك.

ليس كل مرة تسلم الجرة

يقول (جيفري سومرز)، أستاذ الاقتصاد في جامعة (ويسكونسن ميلووكي) الأمريكية: (أعتقد أن أصحاب الأموال الكبيرة سيبحثون عن مصارف ضخمة بحيث تكون أكبر من أن تفشل، وهذا النوع من المصارف موجود في نيويورك، ما يشكل مشكلة كبرى بالنسبة للولايات المتحدة، لأننا نعرف أن المصارف الأمريكية قد انهارت عام ،2008 وآخر ما نريده نحن الأمريكيين هو قدوم تلك الأموال الساخنة ما يمكن أن يضر بالاستقرار). اختيار البلد أو المصرف يمكن أن يترك للمحترفين من المستشارين الماليين والقانونيين، لكن أجور هؤلاء مرتفعة، بحيث ليس بإمكان سوى الكبار دفعها. أما الصغار فيخضعون لقانون (حظوظ الجرة). بالنسبة لصغار المودعين، جاءت الأزمة القبرصية بدليل على أن المدخرات الصغيرة لن تمس بسوء، وبالتالي فقد سُرَ هؤلاء رغم التوتر الذي عاشوه. وبالنسبة إلى أصحاب الأموال الضخمة، فإنهم بالتأكيد سيبحثون عن أصول متنوعة للاستثمار، كالعقارات أو أسهم الشركات العالمية الكبرى أو المعادن الثمينة أو السندات أو استثمارات غير تقليدية كالتحف الفنية والمقتنيات الأثرية الشهيرة.

تراجع الشعبية وانعدام الثقة

في الفترة الأخيرة، بدأ الناس يبتعدون عن أوربا في معظم الدول التي شهدت اضطرابات اقتصادية. كما تجدد زخم الاحتجاجات المناهضة لسياسة التقشف في اليونان. كذلك يشتد الصراع الاجتماعي أيضاً في إسبانيا، بعد أن صار الآن نصف الشباب عاطلين عن العمل. وتتعرض حكومة الرئيس (ماريانو راخوي) لانتقادات حادة بسبب فضيحة فساد. أما في فرنسا، فقد لاحظ الرئيس (فرانسوا هولاند) تراجع شعبيته إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة لدرجة أن (مارين لوبان)، زعيمة (الجبهة الوطنية) المنتمية إلى اليمين المتشدد، تفوقت عليه في استطلاعات الرأي. أضف إلى ذلك أن مشاعر انعدام الثقة تترسخ بين الأوربيين، وخاصةً بين الألمان والقبارصة.

 في هذا السياق، أظهر رسم كاريكاتوري نشر في الصحيفة القبرصية (OPhileleftheros)، المستشارة الألمانية ميركل ووزير المالية الألماني (فولفغانغ شويبله) ورئيسة صندوق النقد الدولي (كريستين لاغارد) وكأنهم أعضاء في جماعات الرحل التي غزت أوربا في الماضي، وكانوا يستلون سيوفهم. وقد أشار صحفي يعمل في الصحيفة المذكورة إلى أن كلمة (فاشي) التي استعملها شويبله لوصف نموذج العمل القبرصي (أي أدنى معدل ضريبة على الشركات في الاتحاد الأوربي)، (لم يعد مبرراً). يعتقد الألمان اليوم  أن القبارصة ليسوا ضحايا أبرياء بل إنهم مسؤولون إلى حد بعيد عن أزمتهم الراهنة. فقد جذبت المصارف القبرصية مليارات الدولارات إلى البلد بفضل الضرائب المتدنية ومعدلات الفائدة المغرية والتنظيمات المرنة. وتعدُّ المستشارة الألمانية ميركل في معظم أنحاء أوربا مسؤولة متغطرسة وقاسية تدعي أنها تعرف كل شيء ولا تهتم كثيراً بمعاناة الأشخاص العاديين. وعلى الصعيد المحلي، لم يعبّر الناخبون عن إعجابهم الشديد بأدائها. في أحدث استطلاعات الرأي، خسر حزب (الديمقراطيين المسيحيين) الذي تنتمي إليه نسبة 2بالمئة من المؤيدين.

بعد قبرص.. (الدوقية الكبرى)

قبرص اليوم، وبالأمس اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا، هي جزءٌ لا يتجزّأ من مسلسل أوربي متواصل يشمل المتعثر والمنقذ. فرغم عمليات الإنقاذ التي شهدتها هذه القارة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أنها بلا نهاية. وقد بدأت الأنظار الآن تتجه إلى لوكسمبورغ، التي يؤمن قطاعها المالي ثلث إجمالي الناتج المحلي والعائدات الضريبية.

يواجه النموذج الاقتصادي لهذه الدولة انتقادات منتظمة بسبب الحجم الضخم لحسابات وودائع الأفراد والمؤسسات، التي تزيد على الـ 500 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، أي أكبر بكثير من نظيرتها في قبرص. وتتمتع هذه الدولة الصغيرة الواقعة في قلب أوربا، وأحد مؤسسي الاتحاد الأوربي الستة، بأفضل تصنيف ائتماني ممكن لديونها لدى الوكالات المتخصصة (A+++). فهذه الدولة لا يزيد دينها على 20 بالمئة أي النسبة الأدنى، بفارق كبير، في منطقة اليورو، على حين يقل عجزها العام بكثير عن حد الـ3 بالمئة الذي تفرضه بروكسل. وقد اعترف وزير المالية (لوك فريدن) بأن لوكسمبورغ وقبرص لديهما بالتأكيد (نقاط تشابه مثل حجم القطاع المالي بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي)، مشيراً إلى أوجه الاختلاف مع (وجود تنوع كبير)، سواء بالنسبة للموقع الجغرافي أم نوعية التعامل مع صناديق الاستثمار وإدارة الثروة. إلا أن تطور القطاع المالي في لوكسمبورغ (يتسم بالغموض) كما يرى (غاستون راينيش)، الرئيس الجديد للمصرف المركزي الذي يرى أن انخفاض الناتج المصرفي الإجمالي بنسبة 5 بالمئة بين 2011 و2012 (يدعو للقلق). وما يزيد من هشاشة نموذج لوكسمبورغ الاقتصادي اعتماد صندوقه التجاري لمدة طويلة على السرية المصرفية المطلقة وعلى نوع من التساهل حيال التهرب الضريبي الذي لا يعاقب عليه في هذا البلد إلا إذا شمل مبالغ ضخمة وكان متكرراً.

الدروس المستفادة

وكنتيجة للأزمة القبرصية، يتوقع ارتفاع أسعار (أصول الاستثمار) المتنوعة في المستقبل. كما يتوقع أن يكون للنمط السهل الذي حلت بموجبه الأزمة القبرصية أثر فعلي في إضعاف قناعة استمرت لعقود طويلة لدى المستثمرين، مفادها أن أوربا الغربية والولايات المتحدة هما أكثر البلدان ضماناً للاستثمار، وبضمنها الودائع. ذلك أن القرار الأوربي الأخير يضع موضع الشك هذه القناعة ويعرض سمعة الأسواق الغربية لعدم اليقين، إذ يمكن القول إنه يتسنى الاستحواذ على الودائع أو على جزء كبير منها بكل بساطة، بواسطة سن واستحداث أنظمة جديدة، دون أن يتمكن المودعون والمستثمرون من الدفاع عن حقوقهم. على حين لا يزال المتسببون في الأزمة المالية العالمية في أوربا والولايات المتحدة بعيدين عن المساءلة القانونية، بل إنهم عادوا للحصول على مخصصات وعلاوات وحوافز بملايين الدولارات. ومن هنا يجدر بدول العالم، ومستثمريها في القطاعين العام والخاص، وبضمنها الصناديق السيادية، مراجعة توجهاتهم الاستثمارية وإعادة هيكلتها وتوزعها الجغرافي، إذ إن ما حدث في قبرص يدق ناقوس الخطر، لأنه سيتكرر في دولة غربية أخرى، وذلك لتجنب الاستحواذ غير المباشر بواسطة القوانين، علماً بأن عائدات هذه الودائع والاستثمارات أصبحت تشكل جزءاً مهماً من الدخل الوطني لدول أصحابها.

العدد 1105 - 01/5/2024