وطني حبيبي

لماذا لا نستطيع أن نكتب عن الحب بمعناه المألوف كعلاقة عاطفية بين رجل وامرأة؟ ولماذا كلما حاولنا ذلك اقتحمنا الوطن وذكّرنا بأنه الأهمّ؟ يصير مكوّناً رئيساً من مكوّنات الحبر، فتتنحّى الأفكار كلها جانباً منتظرة لحظة الخلاص ليجيء دورها، هل لأن الحب بحاجة إلى حالات استرخاء وهدوء افتقدناها هذه الآونة؟ حالات طمأنينة وسلام واستكانة تأمّل في جماليات الأشياء، واختراق أبعاد العالم بأطرافه كلها؟ لا شكّ في أن الحب يحتاج إلى ذلك الانعزال عن كل ما ينغّص، أو يكدّر العيش، وهل ذلك ممكن؟

كم من الشعراء نظموا ما يرغبون من القصائد في السنتين الماضيتين؟ وكم من المبدعين أنجزوا مشاريعهم الإبداعية؟ لا أعتقد أن الجواب مطمئن، فحالات القلق والتوتر لا تغادر الرؤوس المبدعة، ولا الأذهان المفكّرة، فالكائن بلا مكان آمن لن يكون آمناً، وغياب الأمان يعني غياب التأمل والشرود والسرحان في عوالم الإبداع الخصبة. المبدع تغتاله دقائق القلق والتوجس والخوف، فلا يستطيع إلا أن يقلق ويتوجس ويخاف، فهل تجفّ الذاكرة الآدمية، أم هي تنشحن ليعود إليها الاتقاد من جديد؟ إن الأمل بالخلاص يجعل المبدعين يؤجلون مشاريعهم إلى الغد الذي يرونه قاب قوسين، أو أقرب.

حين قالوا إن المرأة وطن، هل تضمّن ذلك القول إن البلاد عشيقة وحبيبة؟ ومثلما يحزن المرء على حبيبته يحزن ويتألم لبلاده ووطنه. وإن كانت قصائد الرثاء هي الأقرب إنسانياً إلى الذات، لأنها اعتراف بذات عليا قادرة قدرة مطلقة، وما الذوات الأخرى إلا مخلوقة وآنيّة، ومآلها الزوال. فالشعراء رثوا ويرثون حبيباتهم، أما الوطن فلا مجال إطلاقاً لرثائه، لا لشيء إلا لأننا نرفض موته. ولا يستطيع أي كائن عاقل أن يتخيّل هذا الأمر، الوطن هو المعنى الوحيد الخالد بين المخلوقات، يغادره أهلوه ويبقى، يمنح الفرح ويستعيده، يهب الحياة ويستردّها، هو الحالة اليقينية، لا يغزوها الشك إطلاقاً، فهو ليس جغرافية وتاريخاً فحسب، وإنما هو الروح الزاخرة بالحياة، والممتلئة بكل معاني الخلود.

نتحدّث عن المستقبل، عن الأحلام والأمنيات، عن الفرح والنجاحات القادمة، من دون أن ندرك خلفية هذه الأشياء. الوطن هو تلك الخلفية الحاضنة لكل ما نأمل بتحقيقه، وإن كنا لا ننتبه إلى ذلك فلا يعني غيابه، بل يعني وجوده البديهي. وحين يختلّ يقيننا بسلامته تغزونا الأحزان، ويرتفع منسوب القلق والحذر والخوف، لتصير الخلفية ضباباً مرعباً. ننظر إليها بوجل، فيتكشّف الوطن بملامحه التعبة ليصرخ في وجوهنا بأن لا تخافوا، حينذاك نتيقن أنه الأب والأم والحبيبة، وأنه الامتداد الراسخ لمستقبل شديد الوضوح. وبرؤية هذا الامتداد فقط يتشكّل انتماؤنا الوطني. فذلك الذي يرى وطنه شاحباً لا يليق به الغناء، والذي لا يغني تتراجع إنسانيته، فيصبح كائناً خشناً بحراشف وأنياب ومخالب، كائناً لا تدلّ ملامحه على أي ملمح جميل، ومثل هذا الكائن لا يمكنه أن يحبّ.

وكما أن البيت ليس فقط عدة غرف وشرفات وأثاث، كذلك الوطن ليس أمكنة فقط، ليس جبالاً وودياناً، ليس مدناً وقرى، ليس شوارع وأرصفة، وإنما هو ذلك كله، مضافاً إليه تلك الألفة العميقة الملتصقة بالقلب، هو ذاك التعامل والتناغم مع مفردات الجغرافية وأحداث التاريخ. الوطن روح الحديقة، وما لا يُسمع من رفيف الأجنحة. هو تلك الأشياء التي لا تُرى، تتركها الغيوم قبل أن ترحل، تتركها بين حبّات المطر فتخصب التراب، هو النسغ واليخضور، أجل، الوطن هو النسغ، وهو الامتلاء بالجمال والخصوبة، هو ما تغمض عليه عين الشهيد قبيل انطفاء ضوئها، وهو التلويحة الحزينة لمنديل زوجة ترمّلت وهي تزغرد، هو حزن الزغرودة وفرحها، هو حرارة الدمعة لأم ثكلى، وهو تواتر الشهقات بين القهر والافتخار، وهو ذلك الدبيب، تلك القشعريرة التي تغزو خلايانا حين نسمع أغنية وطنية، أو حين نرى الجنود البواسل وهم يحضنون أسلحتهم، ويضمّونها إلى الصدور، وأخيراً هو المساحة الشاسعة بين ضمّة بندقية ودقّة قلب.    

العدد 1105 - 01/5/2024