الحوار الوطني ومشاكل الشباب وتمثيلهم

يشهد السوريون تحركاً حكومياً استثنائياً.. وحواراً اجتماعياً جريئاً غير مسبوق، باتجاه ملاقاة المبادرة الرئاسية لحل الأزمة المركبة التي عصفت ببلادهم واستقرارهم بالطرق السلمية، عبر توافق جميع مكوناتهم السياسية والاجتماعية والدينية والإثنية الوطنية في الداخل والخارج. ويجرى التمهيد لعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي سيتيح وضع الميثاق الوطني المعبر عن تطلعات جميع فئات الشعب السوري الدستورية والسياسية، لتحقيق التعددية السياسية، ووضع الأساس المادي لعقد مواطنة ديمقراطي جديد، يحدد ملامح نهجهم الاقتصادي الذي سينهض بقطاعات الإنتاج الأساسية، ويعيد بناء البنية التحتية وفق خطط تنموية حكومية وأهلية، نهج اقتصادي قادر على تلبية متطلبات التنمية الاجتماعية الشاملة، بعد أن تسببت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقد الماضي.. وتداعيات الأزمة السورية.. وخاصة العقوبات الاقتصادية والحصار الجائر، بأضرار بالغة في القطاعات الصناعية والزراعية، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل إلى مستويات قياسية تجاوزت 30%، وتقليص فرص العمل أمام فئات الشباب السوري، وتوسيع بؤر الفقر التي امتدت لتشمل ساحات الوطن.

 إن غياب السياسات الهادفة إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية دفعت بالشباب السوري إلى احتمالين لا ثالث لهما:فإما الهجرة المكثفة إلى الخارج بحثاً عن العمل، وإما البقاء في الداخل دون عمل ودون استقلالية اجتماعية أو اقتصادية، والوقوع بين براثن الفقر، وعرضة لارتكاب المحظور الاجتماعي، أو الانهيار واللجوء إلى التنظيمات الظلامية. فإذا أضفنا إلى تلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية غياب التنظيمات الشبابية الفاعلة القادرة على تجسيد طموحاتهم، ومساعدتهم في تأمين متطلباتهم المادية والروحية، وضعف دور تنظيمات المجتمع المدني بسبب تحجيم الممارسة الديمقراطية، نصل إلى المرحلة الحرجة التي تتطلب حلولاً عاجلة.

القاعدة العامة أن يحسّن الشباب أوضاعهم المادية والاجتماعية في بلدهم، من خلال الخطط التي تضعها الحكومة لتوليد فرص عمل جديدة بالتعاون مع القطاع الخاص المنتج، وبرامج تطوير المهارات لاستيعاب متطلبات تحديث وزيادة القدرة التنافسية للقطاعات المنتجة، ومشاريع السكن الشبابي، ولوائح الأجور التي تتناسب مع المستوى العام للأسعار. لكن غياب هذه الرؤية عن أذهان المنشغلين بمتابعة نهجهم الرامي إلى هيمنة الاقتصاد الحر.. والأسواق الحرة، أدت وستؤدي إلى دفع الشباب السوري إلى الهجرة طلباً للعمل، وبناء مستقبله بعيداً عن وطنه.. وأهله.

لقد بلغت نسبة الشباب السوري الراغبين في الهجرة ممن تتراوح أعمارهم بين 15و24 عاماً 34.3%. وترتفع هذه النسبة بين الأعمار 19 و24 عاماً لتصل إلى 43.2% من العينة المبحوثة.وبحسب دراسة للهيئة السورية لشؤون الأسرة صدرت منذ عام تقريباً، فإن الشباب الراغبين في الهجرة كانوا من ذوي الدخول المحدودة، التي تتراوح بين 4000و8000 ليرة سورية شهرياً. وأكدت الدراسة أن السبب الذي يدفع العاملين الشباب للتفكير بالهجرة هو تحسين المستوى المادي والمعيشي بالدرجة الأولى، كما تظهر هذه الدارسة أن نسبة العمال الشباب قاربت 35.8% من مجموع العاملين، ونسبة من دخلهم أقل من 4000 ليرة سورية شكلوا 34.6%، ونسبة من دخلهم بين 4000 و8000 ليرة 51.3%، أما من دخلهم بين 8000 و12 ألف ليرة فنسبتهم 11.2%.والبقية تراوح دخلهم بين 12 ألف وعشرين ألف ليرة سورية شهرياً.

إن هذه الأرقام تقرع ناقوس الخطر، وهي مدعاة لتحرك سريع حرصاً على مصلحة الشباب السوري، الذي يُعد السند الرئيسي لبلادنا ومجتمعنا.. لمستقبلنا الذي أصر بعض مسؤولينا الاقتصاديين منذ سنوات على ربطه بنهج اقتصادي ليبرالي ريعي، تسبب في تفاقم الأزمات المعيشية والاجتماعية لدى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، ومنها بطبيعة الحال فئة الشباب.

لقد كشفت الأزمة التي مرت بها بلادنا، كم كانت خاطئة وبعيدة عن الواقع، السياسات التي اتبعت حيال فئة الشباب، فالمسألة لاتتعلق هنا بقصور النظام السياسي، وعدم تلبيته لمعايير الديمقراطية فقط، بل بسياسة التهميش تجاه فئات الشباب، وتطلعاتهم إلى مجتمع يستوعب قدراتهم، ويعبر عن مصالحهم. فحصر العمل السياسي والتنظيمي بين أوساط الشباب بحزب واحد، واتباع سياسات اقتصادية ريعية.. نخبوية، كدست الثروات بأيدي (النخبة)، وتغاضت عن حل المعضلات الاجتماعية كالبطالة والفقر، ضيق الخيارات أمام الشباب السوري، وساعدت على تسرب اليأس والنزعات الطائفية إلى نفوس بعضهم، والعدمية إلى نفوس البعض الآخر، كانت حسب تقديرات الكثيرين محرضاً أساسياً لتفجر غضب الشباب السوري.

إن العودة عن نهج اقتصادي أثبتت الوقائع على الصعيد العالمي والمحلي، فشله في معالجة أزمات البلدان النامية وتحقيق طموحات شعوبها، يعدّ أقل ضرراً من الاستمرار فيه، وحصد الكوارث الاقتصادية والاجتماعية، لذلك بات من الضروري العودة إلى النهج التنموي الشامل المتوازن الذي يؤدي إلى:

1 ­ تطوير الصناعة التحويلية السورية العامة والخاصة، هذا القطاع القاطر لقطاعات أخرى، والذي يولد فرص عمل تفوق بقية القطاعات، وتأسيس صناعات جديدة تنسجم مع متطلبات الأسواق العالمية، وتأمين مستلزمات تحول هذه الصناعة إلى قوة قادرة على الصمود.. بل منافسة الصناعات الواردة من الأسواق العالمية والإقليمية، وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 11إلى 15% في نهاية الخطة الخمسية الحالية. وهذا لن يتحقق إلاّ بانفتاح اقتصادي مدروس، لا بتحرير كامل للتجارة الخارجية الذي أدى كما تدل الوقائع إلى تراجع.. وتعثر.. وإغلاق العديد من الصناعات.

2 ­ دعم الزراعة السورية، النشاط الرئيسي لغالبية السوريين، وبضمنهم الشباب، من خلال المشاريع المائية، وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي، وتطوير المنطقة الشرقية اقتصادياً واجتماعياً وخدمياً، كي تحقق متطلبات الشباب، وتثنيهم عن الهجرة الداخلية والخارجية.إن تراجع مساهمة الإنتاج الزراعي في الناتج الإجمالي من 24إلى 16% خلال السنوات الثلاث الماضية، وترويج بعض المقولات عن اللجوء إلى استيراد الغذاء من الخارج، بدلاً من الإنفاق على دعم هذا النشاط الرئيسي في البلاد، سيؤدي إضافة إلى دفع الشباب للهجرة، إلى تهديد الأمن الغذائي للبلاد، وتعريض قرارنا السياسي والاقتصادي للخطر.

3 ­ خلق فرص عمل جديدة لاستيعاب أعداد الشباب الذين يرفدون سوق العمل سنوياً بنحو 230 ألف وافد جديد. وهي مهمة يصعب تنفيذها دون شراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص المنتج، عن طريق تطوير وتوسيع الصناعات القائمة، إنشاء صناعات جديدة، خاصة في المناطق التي تعاني ارتفاع نسبة البطالة، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية في المحافظات والمدن والمناطق الأقل نمواً، التركيز على هموم ومشكلات الشباب الاقتصادية والاجتماعية، وإفساح المجال أمام مبادراتهم وإبداعاتهم، وتعديل سلم الأجور في القطاعين العام والخاص.

4 ­ توسيع التعليم الجامعي العام، وتطويره وتنويعه حسب احتياجات خطط التنمية، وإتاحة الفرصة أمام الشباب لمتابعة تحصيله الجامعي دون عقبات، مما يتطلب إنشاء المزيد من الجامعات والمعاهد الحكومية.

 5 ­ مكافحة الفساد بجميع أشكاله وتجلياته، فهو يحبط آمال الشباب الطامح، ويقدم صورة مشوهة عن مجتمعنا، ويعطل تنفيذ الخطط التنموية، ففي الوقت الذي تتقلص فيه فرص العمل بسبب تواضع الاعتماد المالي، تتكشف حلقات الفساد التي تنهب المال العام وتقتنص مئات الملايين من الليرات.

إننا نرى ضرورة الحضور المكثف في مؤتمر الحوار الوطني لمختلف شرائح الشباب المثقف.. والعامل.. والمزارع.. والمهاجر، لا لأنهم القوة الأهم في الحراك الجاري فقط، بل لأنهم قادة المستقبل لسورية الديمقراطية، بأحزابها ونقاباتها وجمعياتها المدنية.

العدد 1105 - 01/5/2024