عند… حافة العالم!

من كوّة كوخ عند حافة العالم، حدّق صديقي بالهاوية وهو من كان يشكو لوقت غير بعيد من رهاب المرتفعات، أي ما يعرف لدى الدارسين (بفوبيا الأماكن العالية). لكن تلك الهاوية الكونية ما لبثت أن انفتحت أمامه تماماً، كفرجة ملونة ساحرة. وفيها شهد كيف تأبطت النجوم جيد القمر، وكيف دارت حوله في رقصة ضوئية تخلبُ ألباب العاشقين، إذ تشحذ أبصارهم بما هو فوق الخيال.

والحال.. أن صديقي الذي هجرت قلبه شطحات الرومانسية والرومانسيين، وأضغاث الآمال منذ وقت لم يستطع تحديده، كان بحالة أخرى، مختلفة، فهو ما ينفك يرتجف كأنه ينتظر قراراً ما.

يتسارع نبض قلبه، تتعرق يداه، ويجف لسانه، يتكور في كوخه، يحاول أن يستعيد ما فعله (السيد بيل) في موقف مشابه، كي يمنع انزلاق الكوخ إلى هاوية بدت أقل شأناً من هاويته الكونية. غير أنه نظر إلى الأعلى تماماً ونطق بما يشبه تمتمة صامتة: هل سيقبلونني (لاجئاً، عندهم، يا تُرى، أم سيلقون بي إلى…) وأغدو ككرة تتقاذفها الكواكب والمجرات، لكنها تسقط إلى الأعلى وتظل تدور حول كرة أوسع هي الكرة الأرضية، بلا وزن. ومايزيد الأمر بلة هو احتكاك الشهب بها لتلسعها كسياط عاجلة. ليتني مثل تلك الكرة التي يصنعها صبية الحي من الخِرق الملونة، يتقاذفونها في الأزقة الضيقة، وحالما (تعلق) على نافذة الجيران، يفرقهم تهديد الجارة العجوز ذات اللسان السليط، صاحب السبع (شطلات)!

حار بأسئلته وهواجسه، التي قطع خيوط فعل الريح وراوغ الحافة، فقد بدأت الريح في هزِّ الكوخ الخشبي، وخلخلته، كيف له أن يمسك أصابع الريح ويمنعها من العبث بمصيره، فالأمر لا يحتمل مداعبة من طراز ثقيل.

سأغلق كوخي إذن  قال في سره  وتابع: ليمضِ بي إلى حيث يريد، ربما يخالجهم اعتقاد ما، أنه فارغ، ولا أحد سينتبه إلي، لدبيب أقدامي واصطكاك أسناني، فالكوخ لن يفضح حركتي، لقد أغلقته تماماً، ولا بأس أن أصمت كظل، أو كأفعى فردوس، كهيولى!

ما أقسى أن تنظر إلى الأسفل، أو إلى الأعلى، يستوي الأمر لديك، لأنه سديم بلا نهاية، فلا حرائق على الأرض، والأعلى المكتظ بأصوات منذ الأزل، لن تعرف أصحابها، تختلط في الأعلى فمن أي زمن أتتْ، لعل أصحابها كانوا على حواف صغرى من الخوف والقلق والأحلام، والموت، على شفا البدايات والنهايات. لكنني هنا بصوتي لأقف في زمن، أنتظر منه عدالة، في الأرض هي متخيل فحسب!

وقبل أن يختل توازن الكوخ، بسطت غيوم أجنحتها، ليستقر على الحافة تماماً، وهدأ صوت داخله، وقبالته انتصبت نخلة سامقة كثيفة الثمر، وفي غير أوانها أزهرت شجرة توت، واقتربت أصوات كثيرة مضمخة بروائح ذكية جاءت من حوض الأرض. وبالقرب من الكوخ انبجست مياه،  جرت بقوة، فيما ملأت الفضاء طيور برعت في تشكيلات متناغمة، صدحت بعذوبة فارقة.

ثمة يد خشنة جذبتني من قميصي، فيما فاجأ غفلتي صوت أجش قائلاً: يا سيدي أطلت النظر في المرآة، هل لك أن تصعد الحافلة فقد اكتمل العدد، والركاب يريدون الذهاب إلى البيوت، لعن الله المرايا، هل يشاهد من يحدق فيها أحداً سواه!

العدد 1107 - 22/5/2024