الليرة السورية وفقدان حنان المصرف المركزي

إن المتابع للتقلبات الحادة التي حصلت لأسعار صرف الليرة السورية خلال فترة الأزمة سيلاحظ وصولها إلى مستوى مخيف مقابل الدولار: نحو 225 ليرة سورية، بعد أن كان نحو 47 ل.س أول الأزمة. واستمر كذلك ولم يرتفع بشكل كبير وحاد وبقفزات كبيرة إلا في الفترة الأخيرة. فأول مرة وصل إلى نحو100ل.س في 8 نيسان ،2012 ولكن بعد الضغط على حاكم المصرف المركزي استطاع أن يخفضه خلال بضعة أيام لسعر 80ل.س. ولكن بعد هذه الحادثة قفز الدولار قفزات كبيرة، مع العلم أن الطلب عليه في بادئ الأزمة للحاجة لتمويل المستوردات قبل العقوبات، ولاقتنائه كادخار لبعض من لا يهمهم سوى مصلحتهم الشخصية، أو لمن كان يخطط للمضاربات مستقبلاً، أو لمن كان يريد السفر إلى خارج سورية. فقد حوّل أغلبهم العملة السورية  إلى دولارات في تداول وطلب غير مسبوق. هذه الحاجات انخفضت في الفترة الحالية نتيجة للظروف التي وصلت إليها البلد.

فمع انخفاض تمويل المستوردات وقلة القوائم التي تستوردها الدولة وقلة أعداد من يهاجرون، مقارنة بمن خرج خارج البلد، وبالتالي إن أخذ التوقيت الزمني للأزمة كجدول كان يجب أن يرتفع الدولار في الفترات الأولى أكثر من هذه الفترة. وهذا يدل على أن الموضوع ليس موضوعاً حقيقياً ناتجاً عن عرض وطلب، وإنما نتيجة مضاربات وشائعات وهمية بقيادة مجموعة من المخربين اللاوطنيين الذين يمارسون الإرهاب الاقتصادي بهدف الربح السريع، ولو على حساب لقمة عيش المواطن، واهتزاز الثقة بالاقتصاد السوري والليرة السورية، وبدعم وغطاء من أشخاص وداعمين رسميين وشخصيات ذات ثقل. ومن خلال هذه التقلبات العنيفة والارتفاعات الكبيرة الفجائية نستنتج أن ما وصلت إليه قيمة الدولار تجاه الليرة ليس مؤشراً صحيحاً على القيمة الحقيقية، وليس ناجماً عن سياسات وإجراءات صادقة تهدف إلى السيطرة على هذه القيمة بما يضمن أحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية للبيئة العامة ضمن ظروف الأزمة.

 وهذا ما فرض على أغلب القائمين على الحياة الاقتصادية من مسؤولين، كرئيس حكومة ونائب اقتصادي وحاكم مصرف سورية المركزي، التصريح بأن ما يلحق بالليرة تجاه الدولار هو نفسيٌّ وهمي لا يدل على قيمة الليرة الحقيقية. ولكن تصريحاتهم تظل تنظيراً بتنظير. إذ لم نر أي إجراءات من أجل الوصول إلى القيمة الحقيقية لليرة سوى ضخ جزء من الدولارات كل فترة، عن طريق مزايدة تصب في جيب من يلعب لعبة المضاربات، علماً أن الوضع النفسي لانخفاض الليرة حصل عن طريق المضاربات. فعندما يشاع ويروج خبر لاحتمال ارتفاع سعر الصرف قبل أسبوع يتم إمساك كتلة كبيرة من العملات الأجنبية ويقتصر الأمر على الشراء بسعر مرتفع مع إحجام عن البيع. وبذلك ينتشر الخبر بسرعة ويبدأ السعر بالارتفاع تدريجياً وكل ساعة بشكل تلقائي إلى مستوى الإشاعة المستهدفة. ويبدأ المضاربون والتجار بحساب أسعارهم وفق السعر الجديد وبذلك تتحقق النبوءة التي خُطّط لها.

 وهذا يعني أن هناك من يخطط لذلك، ويترافق ذلك برفع المصرف المركزي لسعر الدولار على أساس تضييق الفجوة بين السعر الذي يضعه والسعر الذي يضعه المضاربون. وبذلك يحمي بهذا التصرف فسادهم المدمر للبلد ولاقتصاده وللقمة عيش الشعب الذي يحدث في ظل عجز السلطات النقدية والمالية وعدم متابعتها ومراقبتها الدقيقة للسوق، لتجد نفسها تتحرك بشكل تلقائي خلف هذه الأسعار التي فرضها المضاربون. وهذا ما حدث في الأيام الأخيرة، لذلك لا نستغرب أن يصل سعر الصرف إلى 225 وما يزيد. ودائماً نسمع من السيد الحاكم أن السعر وهمي ويرمي إلى تحقيق مكاسب غير مشروعة، ولكن نجده مستكيناً أو يعطي تصريحات تزيد من ارتفاع الدولار عن طيب نية أم عن معرفة. وكل تغيير وارتفاع في سعر الصرف يؤثر آلياً في الأسعار، التي تؤثر أيضاً في الدخل لدى المواطن، فتنخفض قوته الشرائية ويصبح في عجز وعوز دائمين بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة الاستهلاك وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات والادخار.

فأين الإجراءات والقرارات التي تحقق الهدف من السياسة النقدية، فأهداف السياسة النقدية من الناحية النظرية التقليدية حسب علمنا تهدف إلى تحقيق معدلات نمو عالية وقابلة للاستمرار واستقرار قيمة العملة وتخفيض معدلات البطالة واستقرار ميزان المدفوعات. أما من ناحية تطبيقها عملياً فترتكز على هدف واحد من الهدفين التاليين: الاستقرار النقدي المتمثل بتخفيض معدل التضخم للحفاظ على القوة الشرائية للعملة الوطنية، ورفع معدلات النمو الاقتصادي. فإن ما حصل هو تسخير هذه السياسات لخدمة بعض المضاربين من أصحاب النفوذ وأصحاب الأموال السوداء على حساب الوطن والمواطن. ونسأل: هل لدى حاكم المصرف القدرة على إرجاع سعر الصرف إلى 80 ليرة بعد أن وصل إلى ما يزيد على 220 ليرة؟ ولاسيما بعد التصريح الذي أدلى به مؤخراً بأنه قادر على وضع السعر الذي يريد لليرة، لافتين إلى أن مثل هذه التصريحات بعيدة عن الواقع في ظل سياسات اقتصادية غير ملبية أدت لغلاء مستمر بالأسعار، والى وصول المواطنين إلى حالة نفسية محبطة أدت لتزعزع الثقة بالليرة ورواج ظاهرة الدولرة. ولاسيما أن الليرة في سورية غير معومة وفي الظروف الاستثنائية لا تصبح القوانين الاقتصادية ملزمة للمقارنة بين عرض السلع وقيمة النقود المتداولة، لأنها ليست الأهم بالتأثير حسب المتابعة ولكنها من ضمن التبريرات المتلاحقة للاستمرار بالسياسة نفسها التي تحابي الفساد والفاسدين.

ولكن الأهم لنا وللمواطنين الشرفاء في الظروف الراهنة هو المحافظة على استقرار سعر الصرف وضرورة التحول من سياسة ردود الفعل إلى سياسة تقوم على مبدأ القواعد الثابتة والمعلنة الأهداف، وتسعى لتحقيق هدف نهائي واضح ومحدد يتجسد في استقرار الأسعار ومعدلات التضخم ضمن حدود معينة تتناسب ومستوى النشاط والتشغيل على المدى الطويل. وبالتالي يجب مواجهة الانخفاض المستمر لسعر الليرة السورية عن طريق إعادة الثقة بها بإضافة قوى ومؤسسات حتى ولو كانت عسكرية للمشاركة في وضع وفرض السياسات والإجراءات التي يكون لها أثر إيجابي على الليرة، ومنها التدخل الحكومي الإيجابي وفرض قوانين صارمة، وهو ما حدث مؤخراً بإصدار قانون قاس للتداول غير النظامي للعملة.

 ولكن ما يؤخذ عليه أننا لم نعان من قلة القوانين سابقاً إنما من التقاعس عن تطبيقها من جهة، ومن الثغرات التي توجد فيها. فالقانون يعاقب كل من يتعامل بالعملة إلا المؤسسات المرخصة. ولكن حسب معرفتنا فإن هذه الصرافات هي اليد الطولى للعب بقيمة الليرة، وكان الأحرى توقيف عملها لفترة محددة وحصر التعامل بالمصارف الحكومية أو إيجاد صيغة مراقبة مستمرة ودورية لعملها. فقد يقول قائل إن المصرف المركزي أرسل موظفاً لمراقبة عملهم، ولكن أغلب الصفقات تجري بحضوره أو تؤجل لنهاية دوامه الرسمي. وإضافة إلى هذه القوانين، يجب وقف ضخ العملات الصعبة في السوق إلا بشكل استثنائي ولأسباب جوهرية، ومنع التعامل منعاً باتاً بالعملات غير السورية في الأسواق، ووقف تمويل المنتجات النهائية بشكل كامل أو ربطها بالتصدير أو بفرض رسوم جمركية أعلى وعن طريق المراقبة التموينية المستمرة. وأن يكون الظهور الإعلامي للمسؤولين إيجابياً عند الحديث عن السياسات بما يخفف من الحالة النفسية التي وصل إليها المواطن. ويجب التشديد على دور الحكومة في تطبيق القانون أمام من يتلاعب بالعملة الوطنية ويساهم في زعزعة استقرارها، وأن تكون على دراية تامة ومتابعة لتأثير أي قرار تتخذه لتصحيحه وتصويبه في الوقت المناسب.

 وكذلك فإن التعامل مع الاحتياطي والسياسة النقدية هو من أهم الاستحقاقات أمام الحكومة، وإلا فإن كبار المضاربين ورجال الأعمال المدعومين سيقومون بهدر الفائض في حال لم يستعد جهاز الدولة المبادرة في التحكم وإدارة العملية الاقتصادية عن طريق التحكم بالاستهلاك ودعم الإنتاج. إن السياسات المبهمة الطائشة واللامبالاة أدت إلى انتشار ظاهرة الدولرة التي حاول المصرف المركزي أن يحد منها عن طريق إجراء استنفاد المواطنين بمنع صرف الحوالات إلا بالليرة، فقد وجّه مصرف سورية المركزي للمصارف وشركات الصرافة بتسليم الحوالات الواردة إلى أصحابها بالليرة السورية بدلاً من تسليمها بالعملة التي حولت بها أساساً، ولكن هذا التوجيه جعل المواطنين يلجؤون إلى أماكن أخرى للتصريف.

بصراحة لم نعد نفهم على حاكم المصرف، وهو المعني بالسياسة النقدية والمالية في سورية. فقد أصبحنا نخشى تصريحات المركزي وسياساته. فكلما تحدث المركزي عن إجراءات للتدخل بتخفيض سعر الصرف ارتفع…كما أن هناك أسئلة كثيرة لا إجابات عنها، أهمها: ما الأسباب التي أدت إلى الارتفاع، علماً بأن المتعارف عليه في علم المال والاقتصاد أنه يجب أن تكون هناك دراسة معمقة لتأثير القرارات المتخذة على سلوك ونفسية التاجر أو المستهلك؟ وهنا السؤال: هل تؤخذ هذه السلوكيات في الحسبان، ولاسيما أن معالجة السلوك يحتاج إلى ردع، أم أن ما ينتج عن هذه السياسات تلبي طموح من يصدرها وأهدافه؟!

العدد 1105 - 01/5/2024