وعي المتغيرات والأزمات بين الرؤية الكلانية والدوغمائية العمياء

تدفع التغيرات المتسارعة والتعقيدات المصاحبة لها الكثير من البشر إلى حالة من التشوش والنكوص، وتصيب آثار الأزمات والحروب والهزائم أعداداً من النخب السياسية والثقافية والعلمية بالإحباط والارتداد عن النزعة العلمية، والميل إلى تفسيرات مثالية وأخلاقية طوباوية غريبة عن النظرة المادية التاريخية إلى العالم.

وسأورد مثالين مختلفين لشخصيتين معروفتين في مضماري الفلسفة والعلم، كان لهما حضور مؤثر في القرن التاسع عشر وهما موسى هس ويوهان فولغان غوته (1749  1832).

الألماني اليهودي بالولادة موسى هس (1811  1875)، مفكر عمل في شبابه مع كارل ماركس وفريدريك أنجلز لنشر أفكار الاشتراكية والفلسفة المادية، ودعا اليهود في كل دولة إلى الاندماج في مجتمعاتهم الأصلية كي يتحرروا ويحققوا حضورهم وكرامتهم، لكن تعقيدات القرن التاسع عشر وحروبه، والأزمات والهزائم التي وقعت خلاله جعلته ينكص إلى لا شوفينية عرقية وصهيونية انعزالية عبر عنها في كتابه (روما والقدس) الصادر عام ،1864 الذي عد أول معالم الصهيونية السياسية، والمؤسس للأفكار اللاعقلانية وللظلامية والدموية في التاريخ الحديث، وقد امتدحه هرتزل حين قال: كل شيء حاولناه يمكن العثور عليه في آثار موسى هس.

انتمى هس إلى تيار اليسار الهيغلي الصاعد في سنوات 1830  ،1840 وناضل ضد الأرثوذكسية الدينية والرجعية الإقطاعية، وانتقل من الفلسفة إلى السياسة مثل ماركس وأنجلز، والتقى ماركس أول مرة في بون عام ،1841 وتركت المقابلة في نفسه انطباعاً عميقاً سجله في رسالة بعثها إلى أحد أصدقائه، قال فيها: وجه ماركس ضربة قاضية إلى الكنيسة المنغلقة، وإلى سياسات العصور الوسطى، وجمع بين العمق الفلسفي والروح النفاذة والجدة التي تبلغ حداً بعيداً، ولك أن تتخيل أن روسو وفولتير وهولباخ وليسنج وهاينه وهيغل امتزجوا وذابوا في شخص واحد، وأقول (امتزجوا) وليس (اجتمعوا في سلة واحدة)، ذلكم هو ماركس.

وتبادل الرجلان ماركس وهس التأثير، واعترف ماركس بدور هس في الدعاية للشيوعية، وساهم هس بتحول ماركس إلى الشيوعية، كما انتظم ماركس في ناد اشتراكي كان هس رئيسه. لكنه وصف كتابات هس بالإغراق في التجريد واليوتيوبيا.

وامتدح أنجلز نشاط هس، وعدّه الشيوعي الأول الذي وصل إلى الشيوعية بطريق الفلسفة، واستمد أفكاره من فيورباخ ونزعته الإنسانية، لكن أنجلز اكتشف أن التوفيق والتلفيق لازما فكر هس بإفراط.

قدم هس في كتابه (تاريخ البشرية المقدس) تحليلاً علمياً مادياً للتاريخ البشري العام، ولموقع الفكر الاشتراكي في ألمانيا، وأظهر قدرة المجتمع الشيوعي المستقبلي على علاج الإنسانية من جروحها عبر الحرية والمساواة، وبطريقة سلمية، أو عبر ثورة اجتماعية من نمط الثورة الفرنسية عام ،1789 وبيّن أن انعدام المساواة هو جذر الشرور الاجتماعية كلها.

وتناول هس في كتابه الثاني علاقة الكنيسة بالدولة، ودعا إلى تحالف كامل بين بروسيا (ألمانيا) وبين القوتين الصاعدتين التقدميتين آنذاك فرنسا وإنكلترا، كما قدر فلسفة هيغل عالياً، وركز على أهمية مفهوم العمل الذي يحقق للإنسان استقلاله الذاتي، ورأى أن الثورة الفرنسية أكملت حركة الإصلاح والعبور من الفكر إلى العمل.

لكن هس غرق في التجريد، وغيب مفهوم الطبقات والثورة الاجتماعية والحتمية التاريخية والضرورة في تحقيق الاشتراكية، وأحل محل ذلك العاطفة الرومانسية والإنسانية الطوباوية والأخلاقية لدى فيورباخ وبرودون وفورييه.

فقد انتقد ماركس وأنجلز مفهوم (الاشتراكية الصحيحة) الذي ظهر لدى هس، ورأيا أنه مفهوم تجريدي (يجعل البشر أحبة)، ويغيّب دور الملكية والمال، ويعتقد أن الاشتراكية تتحقق عبر (المساواة والإصلاح والتعليم).

وحصل الافتراق بين تياري الاشتراكية الثورية والاشتراكية الصحيحة بعد صدور البيان الشيوعي عام ،1848 وبين ماركس وهس، وكان ماركس قد شن هجوماً لاذعاً على هذا الصنف من الاشتراكيين البرجوازيين الصغار في كتابه (الأيديولوجية الألمانية) عام 1844.

ونستلخص مما تقدم أن التغيرات والهزائم وذكريات الطفولة البائسة (التي رواها موسى هس في كتابه (روما والقدس) تشكل مقدمات النكوص، فما حدث بعد هزيمتي الكومونة الباريسية عام ،1871 والثورة الفلاحية الروسية عام 1905 يفسر تحول كثير من المفكرين الاشتراكيين إلى الفكر المثالي والرومانسية الشاكية والحالمة.

وهناك شخصية أخرى دعت إلى رؤية كلانية، وامتلاك نظرة انتقادية إلى ما هو علمي، هي شخصية العالم والشاعر الألماني غوته، الذي ركز اهتمامه على فهم اللون، ودعا إلى النفاذ داخل الظاهرة وفهمها بلغتها ذاتها، ودون ذلك لن يتكون (عقل حدسي) يحيط بالطبيعة العضوية، وبإمكان أي فرد، برأي غوته، أن يصل إلى مرحلة العقل الحدسي إذا عرف كيف ينظر!

ومنهج غوته يقوم على (كيفية النظر)، وهي الطريقة الفعالة لمعرفة صفات الظاهرة، وهي تجعلنا نعي غنى العالم وتنوعه وعدم تماثله. وهي أمور يحاول الفكر العقلاني فرض نقيضها على الطبيعة.

انصب نقد غوته على العلم الاتباعي الذي تضمن انفصالاً عقلياً عن عالم الخبرة، وتحول إلى (تذهّن منفصل)، وقد قادت نجاحات العلم الوضعي إلى اغتراب متزايد لعالم العلم عن عالم الحياة اليومية المعيشة.

إن درجة عالية من المهارة والممارسة واستخدام المخيلة الموجهة تحقق الاتصال المباشر مع العالم العضوي والاجتماعي حولنا، وقد تلاقى منهج غوته في العلم مع مفهوم ماركس في الفلسفة، عبر التحول من الذهن العقلي اللفظي المعتاد والكيفية التحليلية (الساذجة) إلى الكيفية الحدسية والاتحاد مع العالم المحيط بنا، وعبر تربية العقل الحدسي وتغذيته والارتباط الضروري به بكليتنا، ومغادرة مفهوم الانفصال الذي قال به نيوتن. وبذلك يتم النفاذ إلى داخل الظواهر بحواسنا كلها، ويتحقق الانشداد إلى المكان، ويمكن اكتشاف المصدر الدينامي للتغيير والأسباب العميقة للأزمات والانفجارات الاجتماعية.

ونظرة سريعة على العقود الثلاثة الماضية تكشف لنا حصول تغيرات متسارعة وحروب مجنونة، وسباق تسلح غير مسبوق، ووقوع انهيارات وهزائم في أماكن عديدة: الاتحاد السوفييتي السابق، ويوغسلافيا السابقة، والشرق الأوسط وإفريقيا، خلقت اصطفافات جديدة وأنتجت حالات نكوص فكرية وسياسية، فكثير من العلمانيين والاشتراكيين الثوريين انتقلوا إلى مواقع التيارات المثالية والإصلاحية الدينية، وعدد من منظري الاشتراكية العلمية تنكروا لما روجوا له وشرحوه سابقاً، وتحولوا إلى تلفيقية انتقائية غريبة عن العقل الحدسي وعن النظرة العميقة الانتقادية إلى العلم الاتباعي والتحليلات المتسرعة وتبريراتها وحججها الواهية.

وأعتقد أن الانقضاض على الماضي والحقائق الملموسة وتكييفها نفعياً، لا يقود إلى طمأنينة علمية أو اجتماعية، ولايحقق مساواة عبر الاتكاء على نظرات أخلاقية وعبارات عاطفية إنسانية مجردة، ونحن أحوج في زمن التغيرات والانعطافات الحادة هذا إلى ممارسة عقل حدسي فاعل، وفهم التحولات الطبيعية والاجتماعية، وتوظيف الاكتشافات العلمية الجديدة، ومعرفة الاصطفافات والتحالفات الطبقية، وإتقان تحسين موقعنا ودورنا وممارسة مهماتنا وصياغة تحالفاتنا ببراعة ودقة، وعدم الانسياق خلف الرؤى الدوغمائية العمياء والعبارات التعميمية المحبطة، والنقد الجريء للرؤى التلفيقية والإصلاحية والانتقائية، التي تعيد إنتاج عدم المساواة، وتتصالح مع ما هو متهافت، ما دام تغيره  على حد تعبيرها  بالغ الصعوبة، وبإنجاز ذلك نتمكن من تجديد أفكار ماركس وأنجلز، وتعميق مشروع الاشتراكية الثورية الجاذب والمواكب لمتغيرات العصر.

العدد 1107 - 22/5/2024