«عدوّ جدّك لا يودّك»

ضابط إنكليزي يتردد على دكان جدّي في عكا، ويقضي أوقاتاً مع جدّي الذي كان يجامله خشية أن يلفق له تهمة تودي به، وكان غالباً ما يجلس على كرسي وطيء خارج الدكان في موقع مثالي، يراقب بعينيه الخبيثتين الناس في السوق، ويحاول أن يلتقط أحاديثهم وهمساتهم.

كان ذلك في الفترة التي سبقت إعلان حكومة بريطانيا العظمى انسحابها ورفع وصايتها عن فلسطين، والتحضيرات تجري بلا حساب، على قدم وساق، لتسليح العصابات الصهيونية من ترسانة السلاح الإنكليزي، وتسليمهم أهم المواقع والتحصينات والثكنات البريطانية في مدن فلسطين وقراها، وفي الوقت نفسه التضييق الشديد على الفلسطينيين في حياتهم وحركتهم اليومية، أو في موضوع التسلّح. إذ كان يحكم بأقصى العقوبات (وصل بعضها إلى الإعدام) على الفلسطيني الذي يشتبه به لمجرد الاشتباه، أو بالوشاية، بأنه يملك أو يحاول أن يملك بندقية أو مسدساً بطريقة ما، أو حتى لو كان يحمل أغلفة رصاص فارغة. بينما يجري السكوت المطبق على تسلّح العصابات الصهيونية، وعلى عمل ومكاتب ونشاطات المنظمات الصهيونية الإرهابية، إضافة إلى تزايد هجرة اليهود إلى فلسطين برعاية وحماية بريطانية.

كان جدّي كما كل العرب في فلسطين يدركون ذلك تماماً، ويتوجسون خيفة من النتائج التي لا بد ستترتب على ذلك، لكنه لم يتوقف عن الثقة بأن العرب (على امتداد الوطن العربي الكبير بمساحته وسكانه وإمكاناته) سينتصرون للفلسطينيين ولفلسطين بالدعم والنجدة.

الضابط الإنكليزي بتردده على دكان جدّي يتسقّط الأخبار، ويحاول أن يجنّد (بوسائل شتى) جواسيس لملاحقة الثوار وتصفيتهم، ومتابعة أي نشاط للفلسطينيين في التصدي للعصابات الصهيونية، وللاحتلال البريطاني. وكان ذلك الضابط يدرك تماماً أن لا جدوى ولا فائدة ولا أمل في تجنيد جدّي لهذا العمل المهين، لكنه لم يتوقف عن التردد على دكان جدّي، والجلوس في موقع مثالي لمراقبة الناس.

في مساء ذلك اليوم، عندما عاد جدّي من المسجد بعد صلاة العشاء، بدا لنا قلقاً، لكنه لم يبدّل أو يغيّر من عاداته.

أخذ مجلسه المفضّل، وجمعنا حوله، وأصابعه تعدّ حبّات سبّحته الزيتونية. نظر إلينا بحب شديد، وقال:

 اليوم جاءني السير وليام (الضابط الإنكليزي) ودعاني للخروج معه إلى مكان نرفّه فيه عن نفسينا..

ابتسم جدّي ابتسامة فاترة، ثم تابع وهو يصلح وضع عباءته المشمشية على كتفيه:

قلت له:

 إلى أين تريدنا أن نذهب، فأنا لا أعرف مثل هذه الأمكنة؟

أجابني ببرود: يا أخي نزهة في الهواء الطلق، نجلس على العشب ونتسلى! قلت له متعجباً: نتسلى!؟ قال: نعم ونتحدث. قلت له: لكنني لا أعرف أي نوع من أنواع التسلية، لا لعب الورق ولا الطاولة ولا النرد، ولا أدخن، ولا أشرب المنكرات، وليس لي رغبة في النساء الحرام (أعوذ بالله).. أعني أن لا فائدة مني.

ضحك الضابط طويلاً ثم أردف:

 لا تعرف أي شكل من أشكال التسلية هههه، ولماذا تعيش إذن؟

تبادلت مع إخوتي نظرات حائرة، بينما يمسح جدّي على لحيته الفضيّة بحبور، ثم قال:

 ما إن سمع مني السير وليام هذا الكلام حتى تهيأت له فرصة ليقول لي بحماسة: إذن أنت معي بأنكم شعب يحتاج إلى وصاية وإلى تثقيف وتطوير وتعليم، ومن هنا يمكن أن تفهم لماذا نحن هنا.. كان يتحدث وأنا أسمع، لكنني فجأة قاطعته وقلت له: (السفرجل) فاكهة طيبة وجميلة، لونه ساحر، وشكله جذّاب، لكننا رغم كل تلك الصفات الحميدة لا نحب أن نتذكّره أو نذكره.. هل تعرف (السفرجل)!؟ أجابني بدهشة: وما دخل السفرجل بحديثنا هذا؟ كل ما أريده وأطلبه منك أن نكون أصدقاء، وأن تفتح لي قلبك وأفتح لك قلبي، وأن نفهم بعضنا كي تدرك قيمة وأهمية وجودنا هنا.

تبادلت مع إخوتي نظرات متسائلة، ولم نفهم ماذا أراد جدّي من حديثه عن السفرجل، لكننا صمتنا ننتظر بقية الحكاية.

مسح جدّي على لحيته الفضيّة، والتقط بعض دموع تقاطرت من عينيه الصغيرتين، وقال:

 قلت له، وأنا أستذكر ماذا فعل بنا الاستعمار الإنكليزي، وكيف خدعنا عندما تحالفنا معه بصدق وإخلاص ضد ألمانيا الهتلرية وضد الحكم العثماني فأنتج لنا اتفاقية سايكس بيكو التي قطّعت أوصال بلاد الشام، ووعد بلفور، واستعماره البغيض لبلادنا، واضطهادنا ودعم العصابات الصهيونية وتأليب العالم علينا. لكنني بعد فترة من الصمت سادت بيننا قلت له: لماذا لم تسألني؟ قال: عن أي شيء.؟ قلت: لماذا لا نحب تذكّر (السفرجل)؟ نظر إلي ساخراً وقال بشماتة: قل لي لماذا؟

أرخى جدّي يديه، وترك سبحته الزيتونية تهدأ في حضنه، وقال:

 كان السير وليام  ينظر إليّ بعينيه الزرقاوين الخبيثتين بتعجب، ينتظر ردي، لكنني ابتسمت بشماتة ابتسامة واسعة، ورددت بيني وبين نفسي: (وماذا أتذكّر منك يا (سفرجل) غير أن في كل قضمة منك غصّة..!)

وسكت.

بعد وقت طويل عادت الابتسامة الهادئة تطفح على وجهه.

العدد 1107 - 22/5/2024