تراثنا الحضاري… والإعلام

يمثل التراث الحضاري بكل أشكاله وتجلياته (المادية وغير المادية) ذاكرة الشعوب الجمعية، التي تنتقل من جيل إلى جيل، فتمتزج بملامح الشخصية الوطنية وسماتها القومية المتميزة.

وإذا كان الإعلام يضطلع بمسؤولية وطنية وقومية أساسية، ولا سيما في البلدان والمجتمعات التي تخوض صراعاً شاملاً لمواجهة الاستعمار الجديد وأدواته الإقليمية والدولية، كما يحدث اليوم في سورية، فإن الإعلام يتحول بحكم الضرورة إلى قوة شديدة التأثير والفاعلية في هذه المعركة ذات الأبعاد الكثيرة والترابطات المعقدة، بل يكتسب زخماً أعظم أمام تسارع الأحداث وتلاحق الصور والوقائع، واستخدام تقنيات عالية الأداء والسرعة والإيقاع والأثر.

 وتكون من أولويات مهماته، لا ضخّ الأخبار العاجلة الميدانية أو الملاحقة الفورية للأضاليل الإعلامية المعادية ودحضها بالصوت والصورة والوثائق وحسب، وإنما الدفاع عن مكونات الذاكرة الوطنية-القومية الجماعية، والتركيز على مكونات هذه الذاكرة، وفي مقدمتها الموروث والتراث الثقافي والحضاري للوطن، وبالتالي الدفاع عن الهوية الوطنية المهددة بالتدمير والتشويه المباشر وغير المباشر، والعمل الحثيث على صيانتها وتقويتها وترسيخها وتمتين أركانها، في إطار المقاومة الشاملة التي تخوضها الدولة والمجتمع في وجه الغزاة الجدد وأتباعهم والمشتغلين في خدمة استراتيجيتهم محلياً وإقليمياً وعربياً ودولياً.

 ولكن يجب القول في الوقت نفسه إنه إذا كانت المنظومة الإعلامية الوطنية (الحكومية والخاصة والأهلية) تفتقر إلى استراتيجية أو سياسات واضحة ومحددة وواقعية تجاه هذه المعركة الكبيرة، أو كانت تعاني من التشوش والاضطراب في التفريق بين العدو والصديق، بين الجوهري والعرضي، بين الأساسي والثانوي، بين العاجل والآجل..أو تفتقر إلى التنسيق الاستراتيجي والعملي في مابينها، فإن هذه القوة الممكنة والمفترضة ستفقد عندئذ صفة المنظومة المتكاملة، وتتحول إلى مجموعة ردات فعل ارتكاسية غير منتجة وغير مؤثرة، في مواجهة الحرب الإعلامية والنفسية والثقافية والسياسية التي يتعرض لها الوطن.وبدلاً من قيامها بدور فعال في التعريف بالتراث الحضاري للمجتمع، والمساهمة المؤثرة في الحفاظ على الهوية الوطنية وترسيخ مكوناتها في المجتمع، فإنها تتجاهل شيئاً فشيئاً هذه المكونات، وتبدأ بالانسياق، دون أن تدري أو تعي، باتجاه قيم وأفكار ونقاشات طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو إثنية أو جهوية، تتناقض جذرياً مع المهمة الأساسية والمطروحة أمام الإعلام الوطني، وتتعاكس تماماً مع كل ماهو وطني وقومي ومقاوم للاستعمار والصهيونية العالمية والرجعية الإقليمية والعربية والمحلية.الأمر الذي يؤدي إلى السقوط في مصيدة الأعداء والضياع في متاهات خطيرة كالانسلاخ الوطني، والذوبان في مخططات الآخرين، بل وتقمُّص واقع وتصورات غريبة لا تمت إلى شخصية الوطن والأمة بصلة.وقد حذر المناضل والمفكر العالمي (فرانز فانون) في كتابه الشهير بعنوان (أقنعة بيضاء وبشرات سوداء)، من أن يلبس الفرد في ظل ظاهرة الاغتراب والانسلاخ أقنعة الآخر، مايجعله تائهاً في عالم ازدواجية الأنا والشخصية والهوية، وفي النهاية يجد نفسه مثل اللقيط الذي لايعرف له أصل ولا أهل ولا نسب.

مسؤوليات الإعلام تجاه تراثنا الحضاري وهويتنا الوطنية

 تقع على عاتق الإعلام الوطني مسؤوليات جسيمة، ليس في التصدي للحرب الإعلامية الهائلة، التي تشنّ على بلدنا ومجتمعنا ورموز سيادتنا واستقلالنا الوطني، وإنما لتوظيف جهود أكبر وأكثر فاعلية وتأثيراً في التعريف بتراثنا الحضاري وتوثيقه من جهة، والدفاع عن هويتنا الثقافية وعناصرها الحضارية المتعددة والمتكاملة، التي تعبر بصورة رائعة عن مختلف مكونات المجتمع من جهة أخرى.

 ويشكل تراث الأمم ركيزة أساسية من ركائز هويتها الثقافية، وعنوان اعتزازها بذاتيتها الحضارية في تاريخها وحاضرها، ومرسخاً لحضورها في الساحة الثقافية العالمية.وليس التراث الثقافي معالم وصروحاً وآثاراً فحسب، بل هو أيضاً كل مايُؤْثَرُ عن الأمة من تعبير غير مادي، من فولكلور، وأغان وموسيقا شعبية وحكايات ومعارف تقليدية تتوارثها الأمة عبر أجيال وعصور، وكذلك تلك الصروح المعمارية المتعددة والمختلفة، والبقايا المادية من أوان وحلي، وملابس، ووثائق، وكتابات جدارية وغيرها، إذ تعبر كلها عن روح الأمة، ونبض حياتها وثقافتها.

فالتراث يعني كل مفهوم يتعلق بتاريخ الإنسان في تجارب ماضيه، وعيشه في حاضره، وإطلالته على مستقبله. أما التراث الحضاري والثقافي فهي الممتلكات والكنوز التي تركها الأولون، فهي السند المادي وغير المادي للأمم والشعوب، التي تستمد من خلالها جذورها وأصالتها، لتضيف إليها لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية، لتحافظ على هويتها وأصالتها.

إن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة الجمعية للأمة والشعب والوطن. فكما أن الفرد الفاقد لذاكرته لا يستطيع أن يستدل على باب بيته، فكيف والحال هكذا أن يحل مشكلاته الحالية و يصنع مستقبله، ويطور ذاته؟! فكذلك الأمر بالنسبة للأمم والشعوب والمجتمعات، التي فقدت ذاكرتها الجماعية، أو جرى تدمير متعمد وممنهج لهذه الذاكرة، كما يحدث الآن في عدد من البلدان العربية، وفي مقدمتها سورية.

 وقد أشار عدد كبير من الباحثين العرب وغير العرب إلى الترابط بين الأحداث السياسية، وبين نهب وتدمير التراث الحضاري في البلدان التي أشعلت فيها الفوضى التدميرية غير الخلاقة تحت عنوان زائف (الربيع العربي) أو (الثورات الديمقراطية). لاحظوا أن هناك تماثلاً أو مساراً متوازياً، بين مايجري من تحطيم لتلك الدول، وتدمير للتاريخ العربي والذاكرة الجماعية والتراث الحضاري فيها، وكأن المخططات لا تكتفي بتفكيك الدول العربية وتمزيقها، بل إنها ترمي إلى إفراغها عمداً من مخزونها التاريخي العريق وتحويلها من عقول فكرية وعلمية وإبداعية، إلى هياكل عظمية فارغة المضمون والمحتوى.

إن تدمير التراث الثقافي والحضاري لأي شعب أو أمة أو مجتمع، يمكن أن يتم عبر عدد من الخطوات والأعمال، منها :

تدمير المواقع والآثار التاريخية والأماكن التراثية.

تدمير الرموز والمواقع الدينية والروحية.

تدمير المتاحف وسرقة موجوداتها.

تدمير المكتبات وسرقة موجوداتها وإتلافها وحرقها.

تدمير مواقع الأرشفة والتوثيق وسرقة وتحطيم موجوداتها.

تدمير التراث الحضاري والاجتماعي والفني ومنع تطويره وانتشاره.

تحطيم التماثيل والرموز التي تخلد إنجازات وشخصيات العلماء المتميزين والمفكرين والمبدعين في الأمة والوطن.

ولو راجعنا ماحصل في الدول التي استهدفت، باسم (ثورات الحرية والعدالة والديمقراطية) و(الربيع العربي)، وجدنا أن معظم ما أشرنا إليه أعلاه قد حصل فيها فعلاً، وأن الأمر ليس غير مسألة وقت حتى يتحقق جميعه.وقد حذَر عدد من الخبراء والمتخصصين والمهتمين بالشؤون الثقافية والتراث الحضاري من التداعيات الوخيمة والمخاطرالتي تحيط بالثروة الحضارية والثقافية الموجودة في هذه الدول، وقد اتخذت أشكالاً ممنهجة في تدمير الآثارالتاريخية والمواقع الدينية، وغيرها من المكتسبات الحضارية التي حوفظ عليها على مرَ العصور.

أمريكا.. والكيان الصهيوني.. وتدمير التراث العربي ونهبه

ليس من قبيل المصادفة أن سرقات الآثار التاريخية بدأت من اللحظات الأولى لاجتياح الجيش الأمريكي (الحضاري) للعراق في عام ،2003 وليس بمحض المصادفة أيضاً أن يبني الجيش الأمريكي أكبر قواعده العسكرية، فوق أعرق الصروح الحضارية في العالم (بابل)، ليدمر إحدى عجائب الدنيا السبع، وليس عفوياً أن يضع الجيش الأمريكي ست عشرة قاعدة عسكرية، فوق ست عشرة مقبرة أثرية تاريخية في العراق، وليس مستغرباً ألا تتدخل القوات الأمريكية، التي احتلت العراق، لمنع نهب الآثار، الذي جرى أمام عدسات الكاميرات، في بث حي ومباشر.

 وليس مصادفة أيضاً أن ترتبط أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2010 في مصر، بمسلسل طويل من نهب الآثار المصرية أيضاً أمام الكاميرات، فقد سرق المتحف المصري في (ميدان التحرير)، وفي الوقت نفسه كانت تقوم فيه عصابة (أبو عطية) الشهيرة، بنهب الآثار ونقلها بسيارات ضخمة، من قرية (الهيبا) الأثرية وغيرها، في وضح النهار.

 إضافة إلى ذلك ماجرى في فلسطين من استيلاء الصهاينة على آثارها التي تعود لآلاف السنين، وتدمير مساحات واسعة من مناطقها الأثرية وبناء المستوطنات أو المستعمرات الصهيونية عليها، وتدمير مساحات أثرية كبيرة في قطاع غزة، أقيمت عليها قصور رجال السلطة، وجرفت مساحات أثرية بما تحويه من آثار وطنية-تاريخية، بزعم أنها تصلح مقرات (للمجاهدين) المقاتلين ومخازن للعتاد والأسلحة.

 ويقول باحث فلسطيني (هو توفيق أبو شومر): لقد بقي كثير من الفلسطينيين يغمضون أعينهم عن نهب الإسرائيليين للآثار، إذ يعدّونها من سقط المتاع، تاركين المجال لعلماء الآثار الإسرائيليين، ينقبون ويكتشفون ويرسخون وجودهم على أرضنا، (توفيق أبو شومر: (ينهبون الآثار في وضح النهار)، شبكة فلسطين المعلوماتية، 24 تشرين الثاني (نوفمبر) ،2013 وعبر وسائل الإعلام، التي يعرفون كيف يوظفونها لتزوير التاريخ والمسميات والأحداث.

 وبمناسبة الإشارة للعدو الصهيوني ودوره في تدمير التراث والذاكرة العربية التاريخية في فلسطين، فقد تسربت (بعد الاحتلال الأمريكي للعراق) أنباء عن وجود علماء آثار تحيطهم مدرعات أمريكية تبحث في المناطق التي اكتشفوا فيها (كنز النمرود) ومتتبعين نهر الفرات بحثاً عن كنوز ولقىً تاريخية معينة.

 ومن ناحية أخرى، توزعت الآثار والوثائق واللقى والمقتنيات التاريخية التي سرقت من العراق (على أيدي الجنود الأمريكان وعملائهم المحليين)، بين دول عديدة، بنسبة 60% في أمريكا، و 30% في (إسرائيل)، التي وضعتها بمتحف خاص بالوثائق المعنونة ب (الإرث الوطني العراقي)، و5% في لندن، فيما تتوزع النسبة المتبقية على كل من تركيا وقطر وفرنسا وألمانيا والسعودية. وقد اشترت الأخيرة قرية أثرية صغيرة في عام ،2008 وزرعتها قرب إحدى مدنها (الصحراوية)، وأعلنت عنها في عام 2011 (مدينة سعودية) بعد أن استعانت بخبراء أجانب مستأجرين.

أعلنت (وزارة السياحة والآثار) العراقية، قطع علاقات التعاون مع واشنطن في مجال التنقيب والتعاون الأثري، بسبب اعتراف أمريكا بإعارة مايسمى (الإرث اليهودي العراقي) إلى (إسرائيل). في حين تجاهلت واشنطن الاحتجاج العراقي على سرقة آثار العراق والأرشيف اليهودي، ومصادرته، وامتناعها عن تقديم كشوفات بالمسروقات، لئلا تكون وثيقة رسمية بين البلدين، تسمح للعراق بالمطالبة رسمياً باستعادة تلك الآثار.

وذكر موقع (العراق للجميع) أن منظمة (ألعاد) الصهيونية نشطت بشكل كبير خلال الغزو الأمريكي للعراق، ونجحت في إدخال مجموعة مدربة إلى البلاد، عملت على سرقة كل مايخص اليهود في العراق، باستخدام فرق مدربة وبعثات متخصصة في (الوركاء) و(أور) نهبت خلالها آثاراً عراقية ثمينة، بطرق مبتكرة لاتثير الشكوك، تحت غطاء عمليات تنقيب.. وقال الموقع المذكور إن إسرائيل وصفت امتلاكها أهم الآثار عن تاريخ اليهود في العراق ب (الانتصار الحقيقي للأمة اليهودية).

وأكد وزير السياحة والآثار العراقي لواء سميسم (لصحيفة (الحياة) في 10 حزيران (يونيو) 2012 أن عشرة آلاف قطعة أثرية أخرجت من العراق إبان الاحتلال الأمريكي، موزعة على متاحف (نيويورك) و(بنسلفانيا) ومدن أمريكية أخرى. وأضاف أن القوات الأمريكية والبريطانية أخرجت أكثر من 80 ألف قطعة أثرية معها، كما نقلت الأرشيف اليهودي كاملاً من قبو داخل دائرة الاستخبارات العراقية إلى الولايات المتحدة وسلمته إلى (إسرائيل)، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة عرضت إعادة 3500 قطعة إلى العراق مقابل إعادة العلاقة (مع وزارة السياحة والآثار العراقية)، وهو ما تمّ رفضه رفضاً قاطعاً.

ومن الجدير بالذكر أنه جرى سرقة 11 ألف قطعة أثرية أثناء الهجوم الأمريكي على العراق في عام 2003. وقد استعاد العراق 4764 قطعة من أصل 10 آلاف قطعة مسجلة، أما غير المسجلة فتبلغ 117 ألف قطعة.

 وقد كشف مدير وحدة مكافحة سرقة الأثريات في سلطة الآثار الصهيونية (شاي بارطوبا) ل (الجزيرة نت)) أنَ في حوزة (إسرائيل)كميات كبيرة من كنوز العراق التاريخية، زاعماً أن (إسرائيل) أبلغت (الأنتربول) بما لديها، لكن العراق لم يبادر لاستعادتها. ولفت إلى أن تهريب الكنوز الأثرية من البلدان العربية إلى الكيان الصهيوني قد ازدادت وتيرته بعد (الثورات العربية)، نتيجة الفوضى وانتشار الحفريات غير القانونية. وأشار إلى ازدياد ظاهرة تهريب الآثار من مصر إلى (إسرائيل) عبر سيناء غداة اندلاع (ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2010). وأشار إلى أن لصوص آثار مصريين باعوا المكتشفات التي سرقوها إلى مهربين عمدوا إلى قص بعضها إلى نصفين لتسهيل عملية تهريبها داخل حقائب، ما أدى إلى تضررها بشكل فادح (أناستازيا:آثار العرب في مهب الثورات والسرقات، شبكة تفاصيل الأدبية، 11/10/2012).

«يتبع»

العدد 1105 - 01/5/2024