سورية بين حوار السلاح… وسلاح الحوار

مضى عامان على عمر الأزمة التي يعيش الشعب السوري في ظلها مستمعاً لضجيج الرصاص، ما أفضى إلى آلاف الضحايا نتيجة لتصاعد وتيرة الأحداث على الصعيد المحلي وتضخم وقائعها إقليمياً ودولياً، مما وسع دائرتها وزاد من تداعياتها، نتيجة الابتعاد عن لغة التفاهم المفترض أن يتم التعامل فيها مع الحدث. فكانت لغة السلاح هي التي تعلو على لغة العقل والمنطق. ولذلك دخل الشعب السوري في متاهات العنف، وما ترافق مع ذلك من عقوبات وحصار اقتصادي فرضها المعسكر الغربي ومشايخ الخليج وتركيا على الحكومة السورية، ولكن نتائجها لامست الإنسان السوري وشردته في بقاع الأرض.

فكثر المستثمرون من كل حدب وصوب، سعياً لاستثمار الآلام والأحزان التي حصلت، واستغلال التدمير والخسائر الكبرى، فعقدت الجلسات والاجتماعات وكثرت اللقاءات والمشاورات، منهم من دعا إلى تسليح الشارع السوري رداً على أصوات كثيرة دعت إلى الحوار وسيلة لمعالجة الأخطاء الكارثية. فليس السلاح هو الحل، بل الحوار العقلاني البعيد عن لغات التعصب والطائفية بأشكالها العفنة هو الأسلوب الواجب الأخذ به.

ولكن حتى اليوم مازال الكثيرون يرفضون الحوار مع القيادة السورية واضعين شروطاً مسبقة، ومطالب تسعى للعرقلة في كثير من بنودها، وكأنَّ أغلب اللاعبين على ساحتنا السورية غضّوا الطرف عن توصيات مؤتمر جنيف مقابل أجندات جيوسياسية خاصة.

ولكن من حقنا أن نسأل: ما العيب في أن تصل المعارضة (الوطنية) إلى قناعة أن التفاوض مع القيادة السورية يمكن أن يحقن دماء وأرواح أبناء شعبنا؟ فاللغة الوحيدة الجائزة في التخاطب هي لغة الحوار والتفاهم والسياسة، ولا يجوز استخدام العنف ضد أبناء الوطن والبيت الواحد.

وبالعودة إلى التاريخ نجد أنه قد نشأ الكثير من النزعات المسلحة في مناطق مختلفة من العالم، ولكنها بعد أن حصدت المئات من الأرواح وشلت اقتصاد البلدان انتهت إلى طاولة النقاش والحوار، لأنه السبيل الوحيد لإنهاء كل مشكلة، خصوصاً أن الحرب ما هي إلا دمار وقتل وتشريد. وحتى المنتصر فيها أو من يدّعي الانتصار قد دفع فاتورة انتصاره المزعوم على شكل جثث من أبناء بلده وهدر أموال كان الشعب بحاجة ماسة إليها في بناء بنيته التحتية وبناء اقتصاد يفضي لتنمية متكاملة.

ومن خلال استحضار التجربة الفيتنامية في التفاوض المتزامن مع المقاومة للإمبريالية الأمريكية، لقد نجحت المقاومة الفيتنامية في إجبار الحكومة الأمريكية أن تقر (أن النصر مستحيل في الحرب الفيتنامية) والجلوس إلى طاولة المفاوضات والبدء بالحل السياسي، وانتزاع فيتنام من بين براثن الأمريكان، بعد أن أوصل عدوانهم وسياستهم إلى الباب الموصود، في ملحمة بطولية ضد الاستراتيجية الأمريكية العالمية، بقيادة حزب شيوعي فيتنامي مقاوم، مستخدماً كل الإمكانات المتاحة. لكنهم كانوا على قناعة بأن المقاومة من دون مفاوضات هي مقاومة عبثية.

قد يطفئ السلاح ناراً ظاهرة، إلا أنه لا يقضي عليها البتة، إذ تظل تحت الرماد، لتشتعل مرة أخرى في أقرب فرصة. أما الحوار فهو الذي يطفئ نار العداوة والحقد والبغضاء في النفوس، وهي عادة أصل كل المشاكل بين بني البشر، ويعيد الصفاء والمحبة بين أبناء الشعب الواحد.

وبالعودة إلى الشأن السوري إذ تمرُّ سورية منذ عامين بمخاض عسير بسبب الصراع في دوائر مفرغة سقط فيهما زهاء 70 ألف ضحية بين مدني وعسكري، وتهدّم أكثر من ثلاثة ملايين منزل، أسفر عن تشريد آلاف العوائل، ناهيك بخسارة مليارات الليرات وتدمير البنى التحتية التي سيستغرق إعادة إعمارها سنوات، وباتت سورية اليوم حسب تصنيفات عالمية في المرتبة العاشرة ضمن قائمة الدول الأكثر بؤساً في العالم، متجاوزة الصومال ودول جنوب إفريقيا.

عامان من الحرب والقتل حصدا خيرة شباب سورية؛ بين شهيد ومصاب؛ مهاجر أو مفقود؛ معتقل أو مختطف؛ ومن بقي راسخاً في أرضه بقي معطوب الحلم.. ومازال المواطن السوري يتساءل: أما آن لهذه الحرب أن تنتهي..؟!

لقد كفانا من قدموا من شبابنا قرابين على مذابح الموت المجاني خلال سنين الأزمة، ولنعمل جميعاً على بناء غد مشرق لأطفالنا وأن ننبذ لغة البندقية إلى لغة الحوار، فالفكر هو الذي يجب أن يسود، والهمجية ولغة السلاح والتهديد والوعيد يجب أن تنتهي. فدعونا نستبدل بحوار السلاح سلاح الحوار، وصولاً إلى حل مناسب يراعي كل التوازن والاستحقاقات لكل أهل سورية.

وكلنا أمل بأن تنتج اجتماعات الحوار والمفاوضات المحلية والخارجية حلولاً جدية وواقعية لكل المشاكل العالقة، من أجل إعادة الثقة بين مكونات المجتمع السوري، ونتمكن من العمل معاً من أجل الصالح العام وتحقيق أهداف الشعب السوري، في العيش بحرية وكرامة ومساواة بعيداً عن سياسات الإقصاء والتهميش والإلغاء والتمييز العنصري والطائفي. وعلى عقلاء السياسة أن يعوا أن السواد الأعظم من الشعب من يدفع جريرة أخطائهم، فهم الوقود الذي يُرمى على نار الفتنة.

وسيقف الشعب السوري بأطيافه كافة بقوة خلف أي اتفاق ينبثق عن الحوار، إذا ما لمسوا فيه حلولاً منطقية، بعيداً عن التشنج والتأزم، حلولاً تنسجم مع روح الدستور والمواطنة ووحدة سورية أرضاً وشعباً، فسورية لكل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية.

العدد 1105 - 01/5/2024