مكانة روزا لوكسمبورغ في التاريخ (1 من 2)

لم يبالغ فرانز مهرينغ، كاتب سيرة كارل ماركس، عندما اعتبر روزا لوكسمبورغ العقل الثاني بعد ماركس. لكنها لم تساهم فقط بعقلها وحده خدمةَ لحركة الطبقة العاملة، إنما قدمت كل ما تملكه، قلبها، وشغفها، وإرادتها القوية وحياتها.

قبل كل شيء، كانت روزا لوكسمبورغ اشتراكية ثورية. وهي تعد من بين القادة الاشتراكيين الثوريين العظيمين، ولها مكانة تاريخية خاصة في بلدها.

عندما انتشر الفكر الإصلاحي بين الحركات الاشتراكية التي كانت تطمح فقط إلى تحقيق (دولة الرفاه)، عبر الترقيع مع الرأسمالية، أصبح من الأولى توجيه نقد ثوري لهذه الألعوبة مع الرأسمالية. صحيح أن المعلمين الماركسيين إلى جانب روزا لوكسمبورغ- لينين، وتروتسكي، وبوخارين وآخرين- قادوا معركة ثورية ضد الفكر الإصلاحي. ولكن كانت الجبهة التي يواجهونها محدودة. في بلدهم، روسيا، كانت جذور هذا الفكر هشة، وكان يكفيهم مجهود بسيط لاجتثاثه من جذوره. فقد كانت سيبيريا أو حبل المشنقة، مصير كل اشتراكي أو ديمقراطي، والذين كانوا يعارضون استخدام العنف من قبل الحركة العمالية؟ من في روسيا القيصرية كان يحلم بالطريق البرلماني لتحقيق الاشتراكية؟ من كان يدعو إلى تحقيق حكومة ائتلافية، ومع من كان يمكن إجراء تحالفات؟ حيث كان وجود النقابات يكاد يكون معدوماً، بحيث يمكن بذلك التفكير بالحل المناسب للحركة العمالية؟ لينين وتروتسكي وغيرهما من القادة البلاشفة الروس لم يحتاجوا إلى مواجهة الحجج الإصلاحية بتحليل مضن ودقيق. كل ما لزمهم هو مكنسة لكنسها بعيداً إلى مزبلة التاريخ.

في وسط أوربا وغربها كان للفكر الإصلاحي المحافظ جذور أعمق، وأكثر من ذلك وسط انتشار هذا التأثير على الأفكار وعلى مزاج العمال. وكانت حجج الإصلاحيين بحاجة إلى إجابة من شخص متفوق، هنا روزا لوكسمبورغ برعت في ذلك. في هذه الدول مشرط روزا كان سلاحاً أكثر فائدة بكثير من مطرقة لينين.

في روسيا القيصرية جماهير العمال لم تكن منظمة في الأحزاب أو داخل النقابات. ولم يكن هناك مثل هذا التهديد لإمبراطورية قوية جرى بنائها عبر تصاعد دور البيروقراطية المنتشرة وسط الطبقة العاملة ووسط الحركة العمالية المنظمة تنظيماً جيداً في ألمانيا، وكان من الطبيعي أن يكون لروزا لوكسمبورغ وجهة نظر مبكرة وواضحة إزاء دور البيروقراطية العمالية قبل لينين وتروتسكي. لقد فهمت قبل فترة طويلة أن القوة الوحيدة القادرة على كسر سلاسل البيروقراطية هي مبادرة العمال أنفسهم. وكتاباتها حول هذا الموضوع يمكن أن تشكل مصدر إلهام للعمال في الدول الصناعية المتقدمة، وتشكل مساهمة ذات قيمة كبيرة للنضال أكثر من أي ماركسي آخر، من أجل تحرير العمال من الفكر الإصلاحي البرجوازي المضر.

في روسيا، حيث كان للبلاشفة دور واسع ومهم في تنظيم الاشتراكيين، حتى عندما لم يشكلوا الأغلبية، كما يدل اسمهم، فإن مسألة تصرف أقلية ماركسية إزاء الجماهير، بحيث تقودهم قيادة محافظة للغاية لم يشكل الأمر مشكلة بالنسبة لهم. لكن بقي لروزا لوكسمبورغ، إلى حد كبير، أن تتطور المنهج الصحيح لهذه المسألة الحيوية. ومبدؤها الأساسي كان: البقاء إلى جانب الجماهير من خلال نشاطهم ومحاولة مساعدتهم. وقد عارضت مسألة الامتناع عن المشاركة في التيار الرئيسي للحركة العمالية، أيا يكن مستوى تطورها. ونضالها ضد العصبوية كان بالغ الأهمية للحركة العمالية في الغرب، وخاصة في المرحلة الحالية، ذلك أن سياسة دولة الرفاه تعزز هذا الموقف. فالحركة العمالية البريطانية، بشكل خاص، عانت من عصبوية هنري هايندمان وحزبه (الفيدرالية الاشتراكية الديمقراطية)، ولاحقاً من الحزب الاشتراكي البريطاني وحزب العمال الاشتراكي البريطاني، ولاحقاً الحزب الشيوعي وخاصة (خلال مرحلته الثالثة)، واليوم من قبل العديد من الملل، يمكن للحركة العمالية في هذا البلد أن تحصل على الإلهام من روزا لوكسمبروغ خاصة من معركتها المبدئية ضد التيار الإصلاحي، فهي لم تتهرب من خوض هذه المواجهة. وقد علمت أن الثوري لا يمكن له السباحة وسط تيار إصلاحي، ولا يمكن له الجلوس خارجا، والنظر في الاتجاه المعاكس، إنما أن يسبح عكسه.

مفهوم روزا لوكسمبورغ لبنية المنظمات الثورية كان يرتكز على أنه يجب بناؤها، من الأسفل، وعلى أسس ديمقراطية ثابتة، وبشكل يتناسب مع احتياجات الحركة العمالية في الدول المتقدمة، وهو مفهوم قريب جداً من مفهوم لينين لأعوام (1902- 1904) الذي جرى نسخه وأضيفت عليه نكهة بيروقراطية على يد ستالينيي العالم بأسره.

ولقد فهمت روزا فهماً واضحاً، قبل أي شخص أن بنية الحزب الثوري، والعلاقة المتبادلة بين الحزب والطبقة، سيكون له تأثير كبير، ليس فقط على النضال ضد الرأسمالية ولتعزيز قوة العمال، ولكن له تأثير كبير على مصير هذه السلطة نفسها. وقد أعلنت، بنرة نبوية، على أنه من دون الحركة العمالية الديمقراطية فإن (المسؤولين وراء مكاتبهم) سيحلون مكان العمال في السلطة السياسية. (الاشتراكية)، كما تقول، (لا يمكن فرضها أو تنفيذها بواسطة مرسوم).

ترجمه إلى العربية وليد ضو

نقلاً عن «الحوار المتمدن»

العدد 1107 - 22/5/2024