أيتها الأشجار المهددة بالزوال… اتحدي!

كانت الغابات في الماضي تغطي معظم مساحة اليابسة، أما اليوم فهي تغطي 9,3 مليارات هكتار، أي 6,29 بالمئة من اليابسة، إذ لم يبقَ سوى ثلاث غابات كبرى هي: غابة الأمازون، والغابات الشمالية في كل من روسيا وكندا. دون أن ننسى أن كل ما يوقده البشر اليوم باستهتار من فحم ونفط ما هو إلا غابات قديمة تحللت بقاياها منذ آلاف السنين، ومن هنا أتت تسمية هذا النوع من الوقود بالأحفوري.

خطورة هذه القضية التي تحمل تبعات بيئية، واقتصادية، وصحية، قد تغيب عن وعي كثير من الناس. فعلى الصعيد البيئي، نجد أن فقدان الغابات، بفعل قطع الأشجار أو لأي سبب آخر، هو من الأسباب الرئيسية لظاهرة غازات الدفيئة، أو الاحترار العالمي، من خلال تعميق تأثير ما يعرف بغازات البيوت البلاستيكية؛ وتحديداً غاز ثاني أوكسيد الكربون. إذ تشير التقديرات إلى أن انحسار الغابات في المناطق الاستوائية مسؤول عن 20 بالمئة من انبعاث غازات البيوت البلاستيكية، وهو ما تؤكده تقديرات لجنة الخبراء الدولية للتغيرات المناخية، التي تقدر أن فقدان الغابات في المناطق الاستوائية مسؤول عن ثلث حجم غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن النشاطات البشرية.

يؤثر فقدان الغابات تأثيراً كبيراً بالدورة الطبيعية الهيدرولوجية (المائية)- من تشكل البخار وتكون السحب إلى سقوط الأمطار- وذلك من خلال آليات مختلفة ومتعددة. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ تسحب الأشجار بعضاً من المياه الجوفية أو الموجودة في التربة المحيطة بواسطة جذورها، لتطلقه لاحقاً في الهواء من خلال أوراقها، ولذا فعندما يُزال جزء من الغابة تتوقف هذه العملية الطبيعية، ويصبح المناخ أكثر جفافاً. إن إزالة الغابات، إضافةً إلى ما ينتج عنها من جفاف المناخ، تتسبب في الأساس في خفض محتوى التربة من الماء، وفي تراجع مستوى المياه الجوفية. وبوجه عام تؤدي إزالة الغابات إلى اضطراب المراحل المختلفة لدورة الماء الطبيعية، وتقلل قدرة البيئة المحيطة على الاستفادة من المصادر المائية المتوفرة. ومثل الدورة الطبيعية للماء، تتأثر التربة أيضاً تأثراً حاداً بعملية إزالة الغابات، التي تسرّع من وتيرة تآكل التربة، عبر زيادة كمية جريان المياه وسرعتها بعد هطول الأمطار. وبسبب فقدان الحماية التي توفرها الأوراق والفروع للتربة ضد الأمطار الغزيرة، أو التماسك والدعم الذي توفره جذوع وجذور الأشجار للتربة.

يُشكّل فقدان هذه الحماية أحد الأسباب الرئيسية لتكرار الفيضانات في الآونة الأخيرة في العديد من مناطق العالم، وخلف كوارث انجراف التربة أو الطين (Mudslides) الهائل الحجم، الذي كثيراً ما يتسبب في طمر قرى بأكملها، ووفاة الآلاف من البشر. وتساهم أيضاً إزالة الغابات، وما ينتج عنها من تآكل وانجراف التربة، في تفاقم ظاهرة التصحر، التي تعدّ حاليّاً من أخطر المشاكل البيئية الدولية على الإطلاق. إن فقدان الأشجار، وما يتبعه من تفاقم ظاهرة الاحترار العالمي، واختلال دورة المياه الطبيعية، وتآكل وانجراف التربة ومن ثم تصحرها، يؤدي كله في نهاية المطاف إلى انخفاض التنوع الحيوي، أو التنوع النسبي للكائنات الحية الموجودة في النظم البيئية المختلفة، أو مقدار التنوع بين أجناس الحيوانات المتنوعة، وداخل الجنس الواحد. وفي دراسة أجريت في البيرو وجد أن الهكتار الواحد من الغابات المطيرة يضم 300 نوع من الأشجار، وأن رقعة مساحتها 5 كيلومترات مربعة من الغابات المطيرة تضم أكثر من 1300 نوع من الفراشات و600 نوع من الطيور. كما وجد أحد علماء الحشرات أن شجرة واحدة فقط تضم 43 نوعاً من النمل.

إضافة إلى القيمة البيئية للتنوع الحيوي، والمتمثلة في حقيقة أن جميع الكائنات الحية الموجودة في نظام بيئي ما تؤدي وظيفة محددة يعتمد عليها النظام البيئي بأكمله في توازنه واستمراره. فإن التنوع الحيوي يكتسي أيضاً قيمة اقتصادية بالغة الأهمية. تظهر هذه القيمة من خلال توفير مصادر متنوعة من النباتات والحيوانات يخدم كل منها هدفاً بشريّاً أو يحقق غرضاً إنسانيّاً؛ إذ يُعد هذا التنوع مخزوناً من المصادر الفريدة، القابلة للاستغلال في العديد من النشاطات الاقتصادية، كصناعة الغذاء، وتطوير واكتشاف أدوية وعقاقير جديدة لأمراض مزمنة أو مستعصية. إن هذه الأهمية الاقتصادية هي أيضاً السبب الرئيس خلف تزايد المخاوف من فقدان التنوع الحيوي، وما سيعنيه ذلك من أثر سلبي على صناعات مختلفة، تمثل ركيزة الاقتصاد في العديد من المجتمعات. ومن السهل أيضاً إدراك الأهمية الطبية والصحية المتلازمة مع توفر مجموعة أكبر من النباتات والحيوانات المختلفة، إذ يحمل كل نوع وجنس من هذه الكائنات في داخله أسراراً ومركبات ومواد، يمكنها أن تفيد البشر في الإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالحياة وكيفية عملها، أو في اكتشاف عقاقير ومواد جديدة يمكن أن تقلل وتعالج الكثير من الأمراض.

كل ما قلناه ليس إلا طرقاً على الباب المحلي: فبعد مجزرة الأشجار التي حصلت لنحو 40 شجرة كينا معمّرة على الرصيف الغربي لحديقة الباسل في مدينة طرطوس، أخشى أننا حين نصل إلى مرحلة عد الخرفان بعد انقضاء العاصفة، قد لا نجد على طريق الصفصافة  الحميدية، (والمظلل بأشجار كينا وصفصاف أجزم أنها الأقدم والأروع في الإقليم، والمسمى (خط الجديد) وهو للمفارقة خط طرطوس  حمص القديم)، لا شجرة صفصاف ولا كينا؛ ف(الضواري الكهربائية) تعزف نشيد الوداع لأشجار هذا الطريق الذي يستحق أن يدرجه اليونسكو جزءاً من التراث العالمي، ناهيك بوجوب اعتباره محمية طبيعية.

العدد 1105 - 01/5/2024