سورية مهد الحضارة الإنسانية ومتحف التاريخ الثقافي الحي

فور بدء حدوث أعمال الشغب والفوضى والتخريب في آذار عام 2011 جرت محاولات مستميتة وهجمات مستمرة (ومازالت تجري إلى الآن) لنهب الآثار السورية، وتدمير معالم الذاكرة الوطنية-التاريخية لمجتمعنا الغني بتراثه الحضاري الثقافي، العائد لآلاف السنين، إضافة إلى تحطيم القوى الظلامية المتعصبة الإرهابية (على الطريقة الوهابية) لعدد من التماثيل والرموز والشواهد، التي أقيمت تحية وتخليداً لذكرى كبار العلماء والمفكرين والمبدعين والقادة التاريخيين (مثل: أبي العلاء المعري، وعالم الفلك والرياضيات العالمي الشهير البتَاني، والخليفة العربي هارون الرشيد، والشاعر والمترجم والمناضل ضد الاستعمار الفرنسي/الفراتي، وغيرهم).

وهو موضوع يحتاج إلى بحث خاص وموسع لما لهذه الشخصيات من أبعاد تاريخية ووطنية وقومية وعلمية وإبداعية وإنسانية وحضارية، شديدة الأهمية في الحرب التدميرية التي تتعرض لها سورية اليوم.وهنا نشير إلى الدور الكبير، الذي نتوقع أن يقوم به الإعلام الوطني السوري بمختلف أشكاله وأدواته، لوضع الرأي العام المحلي والعربي والعالمي بصورة مايحصل، والتصدي التوثيقي والتحليلي والعلمي المتخصص للمحاولات المحمومة الجارية للإساءة عمداً لهذه الشخصيات العلمية والفكرية والأدبية، وتضليل الرأي العام العربي والإسلامي بصفة أساسية حول تاريخ هؤلاء الرموز وفكرهم وإبداعاتهم، وتبرير الأعمال الهمجية الظلامية بحقّ هذه الشخصيات العظيمة.

 فمنذ القدم كانت سورية مهد التاريخ والحضارات والأديان، على ساحلها وجدت الأبجدية الأولى في رأس شمرا-أوغاريت، وتعد دمشق أقدم مدينة مأهولة في العالم اليوم، وتحت عناوين شتى، يدمّر هذا الإرث الثقافي، وتخرب الآثار أو تنهب أو تهرَّب، تماماً مثلما حصل في العراق، فيمحى تاريخ الشرق وتدفن ذاكرة الزمان والإنسان.

 ومنذ بدء الحرب الشاملة على سورية، تتعرض المواقع الأثرية والمتاحف في مختلف المناطق للنهب والسرقة على يد المهربين وتجار الآثار، كما تتعرض الكنائس والأديرة التي تعود إلى مئات السنين للهدم على يد الظلاميين الذين يعيثون فيها نهباً قبل تدميرها.

 وقد حاولت السلطات السورية المعنية إنقاذ مايمكن إنقاذه من الكنوز والقطع الأثرية الموزعة على 11 متحفاً وطنياً، ووضعت خطة حماية استراتيجية، لكن ماذا يمكنها أن تفعل لحماية المواقع حيث كانت تجري تنقيبات وحفريات أثرية، تقوم بها نحو مئة بعثة أثرية أجنبية وعربية وسورية، في مختلف المحافظات والمناطق؟

 وكيف هو وضع الآثار في هذا البلد الغني بشواهد التاريخ؟

  في آخر تحديث على موقعها الإلكتروني، أشارت (المديرية العامة للآثار والمتاحف) في سورية (إلى الانعكاس السلبي للأزمة الحالية، على التراث الثقافي السوري، إذ تعرضت بعض المواقع الأثرية في المناطق الساخنة لأعمال تنقيب وتخريب وسرقة، ونشطت عصابات تهريب الآثار ، كذلك نشطت حركة التزوير، وتضررت بعض المباني الأثرية في بعض المحافظات).

 وأكدت في المقابل (بذلها جهوداً حثيثة للحد من تأثيرات الأزمة الراهنة على الآثار، وتحقيقها نجاحاً على صعد عدة أولها حماية مقتنيات كل المتاحف على امتداد سورية ونقلها إلى أماكن آمنة، واسترداد مسروقات أثرية من بعض المواقع عبر مصادرات حدودية).

 

 المتاحف

 منذ بداية الأحداث الراهنة في سورية، أفرغت (مديرية الآثار كل المتاحف من القطع الأثرية التي غلفت ونقلت إلى أماكن آمنة، وتم تركيب أبواب حديدية إضافية لها، كما نقلت جميع الوثائق التاريخية المهمة إلى مستودعات مخصصة ومؤمنة ضد أخطار السرقة والحرق والرطوبة). وطمأنت أن (جميع المتاحف السورية عموماً بحالة ممتازة، باستثناء بعض الأضرار، إذ اقتصرت السرقات منذ بداية الحوادث على قطعتين أثريتين، هما تمثال برونزي مطلي بالذهب يعود إلى الفترة الآرامية من متحف حماة، وقطعة حجرية رخامية من متحف أفاميا. كذلك تعرض متحف التقاليد الشعبية في حلب للسرقة، وتعرض متحفا حلب الوطني ودير الزور لخسائر مادية، ومتحفا التقاليد الشعبية في حمص ودير الزور لأضرار مادية، لكن القطع التراثية تمّ ترحيلها، خصوصاً المهمة منها، وسرقت 17 قطعة فخارية وبعض الدمى الطينية من قاعة العرض في قلعة جعبر في الرقة).

 

 المباني والمواقع الأثرية

 في تقييم لوضع المباني والمواقع التراثية، أشارت المديرية إلى تعرض مئذنة الجامع الأموي في حلب، الذي يعد واحداً من أهم الجوامع الأثرية في سورية، للتدمير، نتيجة الاشتباكات الدائرة، وأحرقت مئات من المحال التراثية في الأسواق القديمة، والتهمت النيران البضائع والأبواب الخشبية لبعضها، خصوصاً في أسواق: الزرب، العبي، العتمة، العطارين، النسوان، الصوف والصباغة.وأكدت مديرية آثار حلب تعرض بعض المباني في حلب القديمة، والبيمارستان الأرغوني فيها (المعروف بمتحف الطب والعلوم)لبعض الأضرار، نتيجة الاشتباكات.

 على صعيد المواقع الأثرية تعرضت قلاع : المضيق، والحصن، وشيزر، والرحبة، ومدخل قلعة حلب وبرجها الشمالي، إلى أضرار محددة ومحصورة في نقاط معينة.

وفي حمص، تضررت كنيسة (أم الزنار) (ويقال إنها سوَيت بالأرض بعدما نهبها التكفيريون الظلاميون)، إضافة إلى كنائس أخرى، وبعض الأسواق القديمة في المدينة نتيجة الاشتباكات.

وفي درعا، دمرت مئذنة (الجامع العمري) الذي تعرض إلى أضرار نتيجة سقوط قذائف عدة في صحنه وعلى مئذنته وفي محيطه، وجامع الحراك الأثري. وطاولت الأضرار في بصرى، المدرجة في لائحة التراث العالمي، مبنى (مبرك الناقة)، و(معبد حوريات الماء) (المسمى شعبياً سرير بنت الملك)، والسقف الوحيد المتبقي فوق الأعمدة، وبعض البيوت القديمة، وانحصرت انعكاسات الاشتباكات الدائرة في البساتين خارج مدينة تدمر بأضرار سطحية في نقاط محددة من الجدار الداخلي لواجهة (معبد بل) الغربية.

 

 التنقيبات والتخريب في المواقع الأثرية

نشط لصوص الآثار تحديداً في المواقع الأثرية (في المناطق الساخنة عسكرياً) والبعيدة، لصعوبة توفير الحماية بسبب نقص أعداد الحراس، وبعدها عن المجتمع المحلي، وقد رصدت عمليات سرقة وتخريب وتدمير منهجي وأعمال تنقيب غير مشروعة، بطريقة متفاوتة بين موقع وآخر.

 وقد حصلت اعتداءات متفاوتة التأثير على مواقع في الرقة، ودير الزور، وإيبلا في إدلب، وأفاميا في حماة، وفي حمص، ودمشق وريفها.

 وأوضحت دائرة آثار إدلب أن (طبيعة الحفر وأماكنه توحي باستعانة اللصوص بخبراء في البحث والتنقيب عن الآثار، ويتركز عموماً في أماكن محددة داخل الكنائس وتحت النواويس وحولها، بحثاً عن دفائن وكنوز. كما تؤكد المعلومات المستقاة من أبناء المجتمع المحلي وجود الكثير من تجار الآثار والمهربين من المنطقة وخارجها، بخاصة من تركيا).

 

 استراتيجية الحماية

 أعلنت (مديرية الآثار والمتاحف) السورية أنها اتخذت سلسلة من التدابير والإجراءات الاحترازية في إطار استراتيجية وضعتها لحماية الآثار والكنوز التاريخية، أبرز خطوطها:

– وضع جميع القطع الأثرية في أماكن آمنة، وتركيب أجهزة إنذار في بعض المتاحف والقلاع، وزيادة عدد الحراس، وتكثيف دوريات المناوبة وإبلاغ (الأنتربول) عن كل مافقد أو عن جميع ما انتشر على الهواتف النقالة من صور يعتقد أنها للقىً أثرية سورية غير مكتشفة وغير مسجلة، ربما وصل إليها لصوص الآثار عبر التنقيب غير المشروع في المواقع البعيدة.وأسفر التعاون بين وزارة الثقافة والأجهزة الأمنية لتأمين حماية المواقع الأثرية، عن استعادة مسروقات أثرية عبر مصادرات في دمشق وطرطوس وتدمر وحمص وحماة وديرالزور وغيرها، بلغ مجموعها 4 آلاف قطعة تبدأً من خرزة أو مسكوكة، وتنتهي بتمثال أو لوحة فسيفساء، علماً أن ثمة نسبة من هذه المصادرات تبين أنها مزيفة. وأنجزت المديرية كذلك (اللائحة الحمراء بالممتلكات الثقافية السورية المهددة بالخطر)، لتسهيل التعرف إلى الآثار السورية وحمايتها، واستعادة المسروق منها وأطلقت أخيراً حملة وطنية لإشراك المجتمع المحلي في حماية آثار البلاد.

 

 التهريب إلى لبنان

 لقد تبين أن سوق الاتجار بالآثار السورية ازدهر في لبنان، فتم التعاون مع مديرية الآثار في لبنان و(الأنتربول) ومنظمات دولية أخرى في مجال مكافحة الاتجار بالآثار السورية، وأثمر عن مصادرة 18 لوحة فسيفساء سورية على الحدود اللبنانية-السورية، و73 قطعة أثرية مهربة كانت معروضة للبيع لدى تجار آثار، كشفت صحيفة (صنداي تايمز) البريطانية عن جزء منها. (المصدر:مجموعة مواقع إلكترونية سورية ولبنانية).

 

 الخلاصة

 في معمعة الحرب الشاملة التي يتعرض لها المجتمع السوري اليوم، وفي موازاة ومؤازرة الأعمال الحربية العدوانية-الإرهابية، التي تشن على الدولة والبنى التحتية للاقتصاد الوطني، وعلى مؤسسات المجتمع الوطني المدافع الأمين والصلب عن سيادة الدولة وكرامة الوطن والمواطنين..يتعرض المجتمع السوري لأشرس حرب إعلامية عرفتها منطقتنا بل العالم كله، تقوم بها عشرات وكالات الأنباء والفضائيات العالمية والإقليمية، التي تستخدم أحدث تقنيات العمل الإعلامي ووسائل الاتصال العالية السرعة والتطور والأداء، من خلال بث الصور بشكل فوري وتحميلها على شبكة (الإنترنت)، وإغراق الأخبار بسيل مرافق من (الفيديوهات) والمواد الفلمية، مثل (اليوتيوب) وغير ذلك، إضافة إلى مئات المواقع الإلكترونية الفعالة، وأضعاف أضعافها من مواقع (التواصل الاجتماعي)، التي تضم عشرات الآلاف أو حتى مئات الآلاف من الصفحات المنخرطة في هذه الحرب العدوانية الشرسة.

 كل ذلك بهدف كسب العقول والقلوب والرأي العام العالمي والإقليمي والمحلي، عبر التلاعب المحترف الذي يقوده خبراء متخصصون في علم الإعلام الحديث والاتصالات والعلاقات العامة ومناهج التواصل الاجتماعي والحرب النفسية. ويجري مزج بعض الحقائق والوقائع الحاصلة بنسبة كبيرة جداً من الأضاليل والمعطيات الزائفة الملفقة، لزعزعة ثقة الناس بالدولة أولاً، وببعضهم بعضاً، لجعلهم يعتقدون بأن المشكلة ليست في المستعمرين الجدد والكيان الصهيوني والفكر الظلامي- التكفيري، وإنما بالخلافات الطائفية والمذهبية والفروقات الدينية والإثنية والقبلية والجهوية. أي أن الهدف الأساسي من هذه الحرب الإعلامية يتمثل بإعادة توجيه الرأي العام، وتدمير مرتكزات وأسس التلاحم الوطني والتضامن المجتمعي المشترك، وتغيير الأولويات ونسف الثوابت الفكرية والنفسية والعاطفية للمواطن، بحيث يوجَه نحو مسارات أو متاهات ومنزلقات ثقافية-سياسية-إيديولوجية مضادة لأسس ومرتكزات الوعي الوطني والتضامن المجتمعي والانفتاح المتبادل، القائم على احترام الاختلافات الثقافية والدينية والطائفية والإثنية وغيرها.

 ولمواجهة هذه الحرب، التي أشرنا إلى بعض تجلياتها، ولاسيما في مجال محاولة تدمير التراث الثقافي-الحضاري للمجتمع، ونسف مرتكزات الهوية الوطنية، فإننا نخلص إلى أن وسائل إعلامنا الوطنية كلها (حكومية أو خاصة وبجميع أشكالها وأدواتها ومسمياتها) مطالبة بالتفاعل الإيجابي مع المعركة الشاملة الراهنة، معركة الوجود الأصيل والتفاعل الفوري مع مشكلات الاعتداءات المنظمة على التراث الحضاري ونهب الآثار وتدميرها، والعمل على تسليط الضوء على مكونات الهوية الحضارية الوطنية في كل بقاع الوطن، وبكل التزام ووعي ومعرفة ومسؤولية، كما أن وسائل الإعلام مسؤولة عن حماية الهوية الوطنية وتسجيل جميع عناصرها، وتزويد الرأي العام بها ثقافياً، وبذلك يتم تحصينه سياسياً واجتماعياً، حتى يكون قادراً على التمييز بين مايخدم الهوية الوطنية وما يصب في صالح الفكر الطائفي أو المذهبي أو الإثني المضاد للفكر العقلاني العلماني التعددي المنفتح.

 فمن غير المنطقي والمعقول أن يعرف أولادنا كل تفاصيل حياة نجوم الغناء والطرب والرياضة وهم يجهلون تاريخ قادة الفكر وممثلي الإبداع في أمتهم، أو أنهم لا يدركون أسس ومقومات الشخصية العربية وتاريخ أمتهم الحضاري.

 وإذا كنا نخشى على الناشئة من تأثير الفضائيات المعادية وشبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها من الوسائط الإعلامية المهيمنة، التي أصبح جزء كبير منها يشكل خطراً على الهوية الوطنية، فإن الحل الوحيد والأساسي إنما يكمن في صنع البديل الجاذب، واستنفار (تحفيز) روح الوطنية لدى أبنائنا الشباب، الذين يعرفون إن وعوا ومنحوا حرية الحركة كيف يتفاعلون مع هذه الوسائط ويعرفون كيف يأخذون منها مايفيدهم، ويبتعدون عن المواد المشبوهة التي تتنافى وتتناقض مع قيم ومبادئ المجتمع. ونؤكد هنا ضرورة تقديم البديل والاستثمار في الصناعات الإعلامية والثقافية. فالجمهور بحاجة إلى بديل مقنع وواقعي وإلى أخبار دقيقة وليس إلى آراء في الأخبار أو أخبار على هامش الآراء، والجمهور بحاجة إلى برامج ومواد ثقافية محلية تعكس شخصيته وهويته واهتماماته وانشغالاته، لكن إذا انعدمت المادة الجيدة والجادة، والأسلوب الجذاب للتقديم وخلت من الصور والحركة، فإن هذا الجمهور ينصرف عنها إلى فضائيات أخرى وهي بالمئات، ولابد أنه سيجد ضالته أو شيئاً منها في بعض تلك الفضائيات، بغض النظر عن توجهاتها الثقافية والسياسية والإيديولوجية والقيمية.

 فالأمر أكبر وأخطر وأدهى من تحطيم بعض التماثيل أو إزالة بعض القبور والمقامات، فهو يتعلق بمخطط استراتيجي، يهدف إلى تدمير كيان المجتمع ووجوده وتاريخه وحاضره ومستقبله.

 ولهذا يتوجب على الدولة ومنظمات المجتمع الأهلي وجميع القوى الحية في المجتمع أن تواجه هذه الحرب الهمجية بقوة وصلابة وخطة شمولية متكاملة مضادة.

 وللإعلام ووسائل الاتصال بمختلف أدواتها وأشكالها ومسمياتها دور أساسي في العمل على منع إلغاء الذاكرة الجمعية السورية، عبر تدوين كل أجزائها ومكوناتها في كل منطقة وبلدة وقرية وحي، لئلا نجد أنفسنا قد أصبحنا يوماً دون هوية ودون كيان يمسك وحدتنا المجتمعية وبنياننا وخصوصيتنا وثقافتنا الوطنية وتراثنا الحضاري بشقيه المادي وغير المادي.

 وإذا كنا نتفق على أن الإعلام هو المنظومة التي من شأنها أن تحفظ إلى جانب التربية والتعليم والمؤسسات الثقافية ودوائر الثقافة الشعبية والتراث الشعبي والآثار والمتاحف-التراث الحضاري والهوية الوطنية، فإننا نعتقد أن العبء الأكبر يقع على الإعلام وخاصة المرئي منه، لأنه الأكثر تأثيراً في وعي الناس وتشكيل اتجاهات الرأي العام.

 وإذا كان الإعلام يتغذى ويشرب من مكونات الهوية الوطنية، فإن مخرجاته تخدم دون أدنى شك هذه الهوية وتعمل على صيانتها وتقويتها في إطار الحركة التي يعيشها المجتمع ضمن التحولات والتطورات التي تشهدها منطقتنا العربية حالياً. أما إذا كانت المنظومة الإعلامية مهزومة وغير منتجة وغير متفاعلة مع الحراك المجتمعي وغير مواكبة ثقافياً لما يجري في المجتمع، وتركز على جانب واحد من المسألة فقط، فإنها بدلاُ من المساهمة في التعريف بالتراث الحضاري للوطن والحفاظ على الهوية الوطنية وزرع مكوناتها في العقل المجتمعي، فإنها تتجاهل هذه المكونات وتساهم من حيث تدري أولا تدري بخلق فراغات ستُملأ بقيم وأفكار ومعتقدات واتجاهات وسلوكات تتنافى وتتناقض وتتنافر مع كل ماهو وطني وقومي وإنساني. وهذا مايؤدي إلى تفشي ظاهرة الاغتراب والضياع والانسلاخ والفراغ الفكري الخطير، والجهوزية للذوبان في الآخر، وتقمص الناشئة والشباب وقائع وشخصيات وتوجهات غريبة لاتمت لواقع وشخصية الوطن والبلد والأمة وقيمها الحضارية بشيء.

 فالرسالة الإعلامية هي التي تقدمنا للآخر وهي التي تتواصل وتتحاور مع الآخر وتقدمه لنا. وإذا كانت الرسالة الإعلامية عاجزة عن تقديم من نحن وماهي هويتنا، وماهو رأينا، وماهو موقفنا ممايجري في بلدنا وفي وطننا العربي وفي إقليمنا وفي العالم، وماهي خصوصيتنا والسمات الحضارية التي نتميز بها عن غيرنا ونختلف بها عن الآخرين، والاكتفاء فقط بتقديم الأخبار السياسية والميدانية والتعليقات حولها، أو بتقديم الآخر بأفكاره ومنتجاته.. فهذا يعني أننا سلمنا مجتمعنا بكل أجياله وشرائحه العمرية والمعرفية للآخرين، وانسحبنا من مجال الأفكار والقيم والمبادىء. وهذا أمر خطير، لأن الذوبان في الآخر أو نكران الذات أو التراجع أمام قوى التكفير والإقصاء والتدمير، يعني بكل بساطة إدارة الظهر لموروثنا الحضاري ولفكرنا التعددي المعتدل، ويعني في نهاية المطاف التخلي عن هويتنا ووجودنا، والتنصل من تاريخنا الإنساني وماضينا وقيمنا ومبادئنا وتقاليدنا الوطنية العريقة، التي نعتز بها، وعن الشخصيات العظيمة التي تمثل رموزاً لذاكرتنا الوطنية الجماعية، وعندئذ سيكسب الأعداء المعركة، وهو أمر لن تغفره لنا الأجيال القادمة، ولن يغفره تاريخنا الحضاري الممتد على مدى آلاف السنين.

العدد 1105 - 01/5/2024