اقتصاديات تعلم اللغات

يقضي الرشاد أن نختار اللغات التي ندرِّسها لطلابنا كل مرة تبعاً لاستشراف المستقبل، وليس من دراسة أهمية اللغات الحالية، انطلاقاً من الأهمية الاقتصادية للدول الصاعدة وحجم إنفاقها على البحث العلمي، وليس الحالي. هنالك أمم ودول كثيرة تربو على المئتين ولكل شعب إسهاماته الثقافية من تراث تاريخي وشعر وأدب وموسيقا ومسرح، بغض النظر عن حجم اقتصاده. وثقافة جميع الشعوب قاطبة، جديرة بالاضطلاع عليها. ناهيك باللغات القديمة التي نستطيع عبر معرفتها قراءة التراث القديم من آلاف السنين في الوطن العربي وغيره. يتطلب الرشاد من الآن فصاعداً أن نخيّر طلابنا أية لغة أجنبية أو قديمة يريدون تعلمها، بحيث يشمل ذلك جميع لغات الأرض، ولا نجبرهم، بل نكتفي بالنصيحة حول مجالات رسملة معارفهم اللغوية في الدراسات العليا والبحث العلمي وقراءة الكتابات القديمة من كتابة مسمارية والعمل في الجامعات والكليات المختصة بالآثار أو الترجمة الأدبية والعلمية من هذه اللغات والثقافة الإنسانية.. جميع الدول المتطورة علمياً والمستقلة تتيح لأبنائها طيفاً واسعاً من إمكانات تعلم اللغات الأجنبية، وتركز على الدول التي ترتبط مصالحها بها.

الأمم الصاعدة الآن هي الصين والهند وروسيا واليابان هي جميعها دول عظمى، تنفق نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي. أصبحت الصين ثاني دولة في العالم بالنسبة لحجم الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن تجاوزت اليابان، ومن المتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي فيها الولايات المتحدة خلال عقد أو أكثر بقليل، خاصة أن الولايات الأمريكية تعاني أزمات اقتصادية بنيوية كبيرة، وقد بلغ دينها العام 16 ألف مليار دولار هذا العام، وهي مهددة بالتقسيم بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية، وبمزيد من الانكماش الاقتصادي. وقد تحولت الصين من دولة نامية عندما استقلت عام 1949 إلى دولة عظمى خلال نصف قرن، وبلغ عدد سكانها 1350 مليون نسمة مطلع هذا العام، أي قرابة خُمس سكان المعمورة، فكم عدد الذين يجيدون اللغة الصينية من العرب وفي القطر العربي السوري؟ إنهم قلة زهيدة جداً، ولولا الترجمات القليلة التي يتولاها صينيون إلى العربية، لتضاءلت معلوماتنا عن الثقافة والعلوم الصينية جداً.

نعرف القليل جداً عبر الترجمات التي كتبت عن الصين من لغات أجنبية.كذلك الحال بالنسبة للهندية واليابانية.. الوضع أحسن بعض الشيء بالنسبة للروسية، لأن عشرات الآلاف تخرجوا في روسيا.

ينبغي أن نخطط للأعوام المقبلة، بجعل اختيار الطالب للغة الأجنبية ممكناً، وذلك بتوفير مدرسين للغات الصينية والهندية والروسية واليابانية بأعداد كبيرة، فنرسل عدة آلاف إلى كل دولة من هذه الدول على الفور لتعلم لغاتها والعودة بعد عدة سنوات لتدريسها للطلاب في المرحلة الإعدادية. ونستقدم آلاف الأساتذة من هذه الدول للعام الدراسي القادم 2013/2014 لتدريس هذه اللغات في جامعاتنا. هكذا نبدأ ثورة علمية بانفتاحنا على الحضارة المعاصرة لقرابة خمسَيْ سكان المعمورة من الأمم الصاعدة.

شكلت عام 2008صادرات التقنية العالية 27% في الولايات المتحدة، و19% في المملكة المتحدة، و14% في ألمانيا، و18% في اليابان، و29% في الصين من إجمالي الصادرات الصناعية (1)، واستيراد تجارنا من الصين يتركز حتى الآن على السلع الرخيصة جداً فحسب.

نرسل العشرات لكل دولة نامية لتعلم لغتها ولمعرفة ثقافتها وتراثها وعلومها وتاريخها وسياساتها واقتصادها، ليعودوا بعد سنوات للعمل في معهد مختص بكل دولة نامية، يتابع شتى التطورات في هذه الدولة ويصبح مرجعاً علمياً في كل ما يخصها.

هكذا نتحرر من الهيمنة الثقافية والعلمية للغات الغزاة الإنكليزية والفرنسية، التي تتراجع أهميتها في القطر العربي السوري، لصالح لغات صديقة فائقة التطور ولصالح الانفتاح الثقافي والعلمي على العالم كله.. ونكون قدوة لباقي الأقطار العربية والدول الإسلامية والنامية عموماً.

بدأنا نتجه شرقاً، حيث الدول الصديقة، وحيث مصالحنا الاقتصادية والسياسية والثقافية.. وهذه استراتيجية رشيدة ينبغي أن نخطط لها بدقة وبُعد نظر، كي نحقق عبرها أعظم المنافع على صعد متعددة.. وتعلم اللغات هو أول الطريق. لقد كنا ننظر إلى شتى دول العالم بعيون أعدائنا الغربيين أوربا والولايات المتحدة عبر ترجماتنا لما يكتبونه عن الدول الأخرى.

آن لنا أن نترجم نحن العرب مباشرة من لغات دول العالم كل ما يهمنا من علوم وسياسة واقتصاد وثقافة من آداب وفنون جميلة وغيرها.

 

(1)-  rld Development Report 2011، p.314/315- World Bank wo).

العدد 1105 - 01/5/2024