ملح على الجرح

بقدر ما يكون الجرح بليغاً يكون رشّ الملح عليه مؤلماً، فالملح يحرق الأنسجة الحيّة، يتيبّس ظاهرها ويبقى الألم مضاعفاً في الأعماق. وبقدر اتساع الجرح وامتداده ينتقل الوجع إلى المساحة كلها، ويزداد الألم أيضاً، وبين الأفقي والعمودي يتحيّر الطبيب المعالج.

هو الجسد الحيّ، أو الذي ما زال حياً، يقاوم الهمود بقدر ما يملك من قدرة على الحركة، ويقاوم الموت بقدر ما فيه من قوة حياة. وسواء كان الجسد جسد إنسان أم كيان أمة، فالوجع واقع لا محالة أمام ملح وُضع ليؤلم. ويزداد الوجع حين يكون واضعه أخاً أو صديقاً، إنه ظلم ذوي القربى الأشدّ مضاضة.

يمر الكائن الحي بحالات مرضية يكون فيها أحوج إلى المساعدة والعناية والرعاية. فيأتيه بعض المقربين بأملاحهم وإبرهم وسكاكينهم ليعملوا فيه ما شاء لهم اتّساخ ضمائرهم، ويتلوى الجسد الواهن تحت قرابتهم. هو ما يحصل الآن في جسد هذه الأمة المبتلاة برهط من أنجس الناس، يحملون ماضياً دنساً، يتّقون به لفحة الخير من لهاث أمة لا ترضى ولا تقبل الموت بهذه الطريقة، يحملون ماضيهم ليستروا عوراتهم، وسلوكهم الإجرامي.

كنا نتحدّث قديماً عن الفساد، فنعترض عليه ونرفضه، ذلك أيام كانت الأمة في المستوى الأدنى من الكرامة البشرية، فكيف يكون الحال وقد انحدرت تحت ذاك المستوى بكثير؟ يومذاك كنا نكتفي بما يسمح لنا به من اعتراض ورفض، أو التعبير عنه بكلام يوضع على الهامش في كثير من الحالات. وكان الهامش ضيقاً لدرجة اكتظّ بعبارات الاعتراض، عبارات أهملها أولو الأمر، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من انحدار. والآن يضيق الهامش وتنفلت الآراء من حدودها، ليأتي بعض أولئك المعترضين أو الرافضين، يأتون بملحهم وسكاكينهم لينهالوا حرقاً وتجريحاً، وبذلك يثبتون نفاقهم القديم والجديد، النفاق الذي لم يكن يوماً اعتراضاً لأجل صالح الأمة، وإنما لمصالح لا يدري سرها إلا العالمون بالأحوال.

حين قال لهم الله: كونوا قردة خاسئين، تقرّدوا وخسئوا، والآن يزدادون بما أمرهم الله. وكم قيل عن الشام من أقوال لا تعنيهم في شيء، لأنهم بالنسبة إليها لا شيء. وسرعان ما ستعود أملاحهم إلى عيونهم، وسكاكينهم إلى نحورهم. كل العلائم تنبئ بذلك، فما جرى وما يجري وما سيجري يقول لهم: كونوا أذلاّء منافقين، وهم يزدادون ذلاًّ ونفاقاً. والشام وردة العرش البهيّة لن تزداد إلاّ نضارة وإشراقاً، فهي كالشمس ستطلع كل صباح بحلّتها المضيئة، وسيغمضون جحورهم وأقبيتهم في طريق أشعّتها.

الشام تمنح ملحها للمدن الجاحدة، وللعواصم البائدة، فتتطهّر به الشوارع والقصور، وتمتلئ منه الحواضر والحضارات، كما كانت تمتلئ في أزمنة مضت. الشام لا ترشّ ملحها إلاّ خيراً على الأرض والكائنات. فمتى يدرك الجاهلون ذلك؟ ومتى يتيقّن الجاحدون أن جحودهم سيعود عليهم ندماً وحسرات.

الشام ستبقى، وسيرحل المعتدون. الشام آخر مدينة تصعد إلى الله يوم القيامة، وستكون شاهدة وشهيدة، ويوم يشهد الشهيد تُختصر الحسابات كلها، لتكون آخرتكم في النار على يديها. ستفتح أبواب الخلود للأبرار، ومهاوي الجحيم لكل من رشّ ملحه ألماً فوق جراحها. وحين تنهمك المدن بجمع خساراتها ستكون الشام متفرّجة وحزينة.

العدد 1107 - 22/5/2024