ثلاث سنوات عجاف

ثلاث سنوات تقريباً مضت على مأساة الشعب السوري الصابر. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم يحدث لبلد في المعمورة، ما حدث في سورية، من دمار وتخريب لكل مكونات الحياة. في ظل هذه الظروف المأسوية كثر الحديث والجدال بين أوساط وفعاليات مختلفة من الشعب السوري حول ما يحدث؟

هل هي (ثورة)؟ هل حققت هذه (الثورة) أهدافها؟ هل الصراع صراع ديني؟ هل هو صراع بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية؟ أخيراً، ماذا كان حصاد هذه (الثورة) في الفترة الماضية؟!

بداية: تشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 130 ألف قتيل، وضعفهم مصابون بإصابات خطيرة، لا توجد إحصائية دقيقة. وهناك نحو 5,2 مليون شخص خارج سورية وضعفهم في الداخل شردوا، ويمارس عليهم كل أنواع الابتزاز، وبعض الإحصائيات تتحدث عن تدمير أكثر من 5,1 مليون منزل. بالمختصر، فإن الخسائر المباشرة حسب أقوال رئيس الوزراء تقدر بأكثر من 3000 مليار ليرة سورية، ويقدر البعض أن العودة إلى ما كنا عليه عام 2011 قبل الأزمة تحتاج إلى 200 مليار دولار، فكل قطاعات الاقتصاد السوري طالها التخريب والسرقة، أيضاً الممتلكات الخاصة للمواطنين في المناطق الساخنة لم تسلم من الأذى والعبث.

النتائج العامة.. حصاد سنوات الأزمة

1 أصبحت سورية أخطر دولة في العالم ولا يتوفر الأمان في معظم المدن والأرياف، فالموت يطول البشر في كل مكان، خاصة في المناطق تحت سيطرة المسلحين.

2 هناك مناطق هامة تحت سيطرة المسلحين، غيّر المسلحون أسماءها (دير الزور أصبحت الخير  والحسكة صارت البركة) وهذا يطرح مسألة التقسيم التي لا يمكن استبعادها من مخططات أطراف التآمر على سورية.

3 اقتصاد مدمر مع فوات فرص التطوير والتراكم، خلال سنوات الأزمة.

4 تقدم ملحوظ للفكر الطائفي الانعزالي على حساب الفكر الوطني والتقدمي، وهذا يطرح بقوة مسألة الانتماء الوطني الذي يعد فوق كل الانتماءات، وهي مسألة أساسية في المعالجات السياسية القادمة.

5 جميع الطوائف والأقليات الكبيرة والصغيرة، معرضة لخطر حرب أهلية يسعى إليها أعداء سورية، مما يهدد وحدة الشعب السوري ويعمق الانقسام المجتمعي.

6 خروج عشرات الآلاف من الشباب من دائرة المستقبل، وهذه طاقة كبيرة خسرتها البلاد.

7 انهارات الفئات الوسطى والفقيرة، والطبقة الغنية هاجر معظمها إلى أماكن أكثر أمناً.

8 لا تزال هياكل الدولة ومؤسساتها قائمة في جميع المحافظات تقريباً، عدا الرقة وريف دمشق، ولا تزال الدولة تدفع رواتب موظفيها، فوجود هذه الهياكل ركيزة اقتصادية وإدارية أساسية لما بعد الأزمة، بمعنى أن الدولة موجودة، لكن هناك أداء حكومي ضعيف في بعض المناطق أدى إلى فوضى عارمة.

9 الثمن الأكبر دفعته الجماهير الشعبية والفئات الفقيرة، مرة قبيل الأزمة، حين هُمّشت مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومرة بسبب الحصار الاقتصادي الجائر، ومرة أثناء الأزمة عن طريق ابتزاز المجموعات المسلحة.

10 كان هناك نزوع ورغبة لتدمير بنيان الدولة الاستراتيجي والخدمي، لدى أطراف المعارضة المسلحة، ترافق كل ذلك مع تدخل خارجي، وضخ إعلامي وسياسي ومالي، ومهاترات وانقسامات في صفوف المعارضة الخارجية، واندماجات واصطفافات في المجموعات المسلحة عكست المصالح السياسية والعقائدية والمالية، مع انحسار تدريجي للبيئات الحاضنة. لكن بقي الشحن الطائفي سيد الموقف لدى المعارضة المسلحة، مع خطة منهجية مدعومة خارجياً لإسقاط الدولة والمجتمع السوري.

11 الانسحاب التكتيكي للفصائل المسلحة بين المدن ليس إلا صورة توضح الخطة التدميرية للمدن والبلدات، مع ما يترتب على ذلك من منعكسات سلبية على المواطن الذي لم يعد يعرف إلى أين يذهب مع عائلته، عدا الخوف والجوع والرعب والبرد والقتل، حسب الانتماء، ومجازر عدرا وغيرها أبلغ برهان.

من كل ما سبق نستنتج كم كان ضرورياً، الوصول إلى عقد اجتماعي سياسي سلمي عصري يتيح لكل مكونات المجتمع السوري السياسية والمدنية، العيش بسلام وأمان، بدلاً من مغازلة بعض الأطياف والرموز التي لا يهمها مصلحة الشعب السوري.

نعتقد أيضاً أن ما حدث خلال سنوات الأزمة لم يهدد مصالح الشعب السوري فقط، بل هدد وحدة سورية جغرافياً، إن النتائج التي توصلنا إليها ليست نهائية وتحتاج إلى إغناء، إذ توجد دراسات ومعطيات أخرى شملت نواحي أخرى من فصول الأزمة، كلها تقريباً تصب في خانة أن ما حدث كأن كارثة بكل ما تعني الكلمة.

استنتاجات أولية وغير نهائية

1 الإقرار بالحل السياسي الذي هو السبيل الوحيد الذي يحفظ الوطن والمواطن.

2 الثورة لا يصنعها الإرهابيون، بل الجماهير العريضة من كل الفئات الشعبية، والسلمية عنوانها،  لا الطائفية والإقصاء، والتخريب والقتل.

3 ما هي هذه (الثورة) التي تجلب عشرات الألوف من المقاتلين من الخارج تحت ذرائع دينية؟!

4 أعتقد أن النظام لا يزال يتمتع بتأييد واسع في سورية من معظم شرائح المجتمع. لا بل قدم العديد من المشاريع الإصلاحية، وهي من وجهة نظري متقدمة على طروح المعارضة بكل ألوانها الداخلية والخارجية، وبرنامج الحل السياسي الأخير أخذ طابعاً دستورياً وقانونياً.

5- العنف المفرط من قبل النظام في بعض المناطق، قابلته أطراف المعارضة المسلحة بأعمال تدميرية شاملة، خاصة في البنى التحتية مع ارتباط بالخارج وتنسيقها (مثال معارك الغوطة والقلمون).

6 لم تسع معارضة الداخل والخارج لملاقاة برامج الحكومة السورية للحل ومحاكاتها سلمياً أو برنامجياً غير التمترس خلف شروط مسبقة. لكن حدث تطور في مواقف معارضة الداخل باتجاه الإقرار بالحل السياسي، ورفض التدخل الخارجي والعنف.

7 في بداية الحراك السلمي، ظهرت قيادات تنتمي إلى قوى قومية وليبرالية ويسارية، ثم انسحبت فبرزت قيادات دينية طائفية مع تمويل خارجي.

* من عرضنا السابق، نطرح التساؤل التالي:

إذا كان الجيش العربي السوري، وهو المكلف قانونياً ودستورياً بحماية الوطن والمواطن، قد اعتمد القسوة في بعض الأحيان، نسأل: ما هي المعايير الأخلاقية والدستورية والقانونية لأطراف المعارضة المسلحة التي رفعت سقف العنف إلى القمة وعلام يدلل هذا المسعى التدميري لبنى الدولة ومؤسساتها؟ والأمثلة أكثر من أن تحصى.

أما وقد وصلت الأوضاع إلى هذا المستوى الدموي، فيحق لنا طرح الأسئلة التالية:

1 ألم تقتنع المعارضة المسلحة ومن يقف وراءها بأن إسقاط النظام أصبح أمراً مستحيلاً، وأنهم بأعمالهم قد ساهموا بإسقاط المواطن وهددوا بنيان الدولة الذي هو بالأساس لخدمة الشعب السوري.

2 هل اقتنعت السلطة السورية بإشراك المعارضة السلمية في عملية تغيير واسعة تعيد ترميم ما خربته المجموعات التكفيرية في بنية المجتمع السوري؟ وهل أدرك الموالون والمعارضون أن سياسات الإقصاء أدت إلى انتشار ورواج أفكار المذهبية الطائفية وقاطعي الرؤوس.

خاتمة

أرى  أنه لا يجوز الحديث عن (ثورة) تحدث في بلدنا، لأن (الثورة) تحمل في  رحمها نزوعاً إيجابياً لعملية التغيير، مع برامج تمس كل شرائح المجتمع، وتؤدي إلى التفاف الجماهير العريضة حول القوى المحركة لها سلمياً، لكن الذي نراه هو قوة مسلحة ذات بعد ديني محدد وشحن طائفي، لتأسيس دولة دينية بأدوات رجعية عفنة ودعم خارجي كبير.

سؤالي الأخير: ما هي السعادة التي تغمر بعض المسلحين من أبناء البلد، عندما يرون مجرماً سعودياً أو شيشانياً…إلخ، يذبح مواطناً سورياً أو جندياً، وسط صيحات التهليل والتكبير؟!

العدد 1105 - 01/5/2024