عبد الجليل بحبوح… رحل ولم يغب!

كانت الصورة النمطية عن المناضل طوال القرن العشرين، أنه قاس متصلب غاضب دائماً، لا يقبل الرأي الآخر ولايطيق سماعه، وهو في الوقت نفسه وحيد النظرة لايرى أي احتمال سوى احتمال نجاح مبادئه. تهيمن عليه الأيديولوجيا هيمنة مطلقة، وحسب وجهة نظره ومواقفه بل وحسب سلوكه الاجتماعي والإنساني والأسري، وربما كانت هذه الصورة النمطية عن المناضل موروثة عن شخصية ستالين الشهيرة، ومواقفه المتصلبة والوحيدة الجانب من الحزب ومن المجتمع السوفييتي، ومن الحرب الكونية الثانية التي رفض خلالها أي تراجع أو تهاون حتى عندما كادت القيادة السوفييتية تتراجع، وكان نجاحاً عظيماً له يستحق التقليد.

لم ألمس مثل هذه الشخصية النمطية لدى المرحوم عبد الجليل بحبوح (أبو فياض) وقد عرفته طوال أربعة وخمسين عاماً، باستثناء تصلبه المدهش تجاه مبادئه والتزامه بحزبه واستراتيجية هذا الحزب وتعليماته ونضاله. أما ما عدا ذلك فقد كان له سلوك آخر، إذ هو يحترم الرأي الآخر، ويحتمل الصحة في آراء الآخرين، ويصادق شخصيات من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية. ودوداً مع الجميع، ويفرض احترامه على الجميع، هيناً مع من يختلف معه، حنوناً مع أسرته وأهله، يعرف بدقة حقوقه وواجباته، طويل البال، صبوراً، صابراً، لم يغره نمط الحياة الاستهلاكية ومقدماتها، فلم يلهث وراء المال ولم تمنعه الحاجة عن الاستمرار في النضال والتضحية. وفي الوقت نفسه لم تهن مواقفه ولم تتراجع تجاه من يعادي حزبه أو مبادئ حزبه، فاعتقلته السلطة القمعية ودخل السجن مبكراً عام 1958 ودخل معه أخواه شريف ومحيي الدين ولم يبق خارج السجن سوى والدته التي استمرت ترعاهم في السجن، وتنفق عليهم من مدخراتها القليلة دون أن يهون أو تهون، وبالمناسبة فقد شاركت والدته المرحومة في جميع المظاهرات الاحتجاجية التي قامت بها الشيوعيات طوال السنوات الثلاث الآنفة الذكر. وبعد أن خرج أبو فياض من السجن بقليل، أوفد إلى المدرسة الحزبية في بلغاريا ثم عاد صحفياً في (سانا)، وللأسباب نفسها (أي النضال من أجل الحزب ومبادئ الحزب) اعتقل مرة جديدة في المخابرات الجوية وأخرج وأفرج عنه بعد عدة أشهر، وهو على وشك أن يقضي نحبه من التعذيب والعذاب، فأوفد للعلاج في موسكو، وبقي على إصراره وتصلبه وصلابته، وعاد كما كان قبل الاعتقال والتعذيب وكأن شيئاً لم يكن.

صادف وجودي في موسكو في المشفى نفسها، وأذكر أن معظم العرب في ذاك المشفى (كانوا يغنجون) ويطلبون ويتطلبون ويعتقدون أن لهم فضلاً على السوفييت لأنهم يساريون. وكانت بعض طلباتهم ومطالبهم غير معقولة لا في الشرق ولا في الغرب. وأذكر أن أبا فياض الذي كانوا يتعاملون معه وكأنه وكيل للسلطة السوفييتية كان يتحمل (غلاظاتهم) ويحاول إقناعهم بتغييرها، في الوقت الذي كنت أنا فيه، وأنا غير شيوعي، أتبرم من هذه  المطالب وأتشاجر معهم. كان احترامه للرأي الآخر واضحاً، يستوعبه ويقبله ويحاول التعامل معه بأفضل أشكال التعاون، مع أنه كان في ذاك الوقت هو الأولى بالمساعدة والأحوج للتعاطف والعطف.

رفض الأطباء البلغار إجراء عملية قلب مفتوح له لأن جسمه لا يتحملها، فأصر بكل شجاعة أن يجري العملية في دمشق، ولم يتوقف كثيراً عند طلب الطاقم الطبي منه تصريحاً بأنه مسؤول عن فشل العملية الذي أشار الطاقم إليه. وقد كتب وصية ضمنها أدق التفاصيل، وبضمن ذلك إجراءات النعي والدفن وما يشبه ذلك وكأن الأمر لايتعلق به، وعندما ساءت حالته في السنوات الأخيرة كان يواجه المرض بشجاعة أيضاً، وبجد مبرر وكأن هذا المرض صديقه أو قريبه، ولم أره مرة ناقماً على هذا المرض أو رافضاً له أو مستنكراً، وكان يردد دائماً أن هذا من طبيعة الأمور وأن عمره المديد والظروف التي عاش بها هي المسؤولة عن هذه النتائج الصحية.

استوعب عبد الجليل بحبوح الظروف العائلية السيئة اقتصادياً التي أحاطت به، وتعايش معها وكأنها من بديهيات الحياة، كما استوعب انقسامات الحزب وتذرره، وبقي محباً (وصديقاً) لرفاقه مهما كان التيار السياسي الجديد الذي كانوا فيه أو الحزب الشيوعي الذي استمروا بالانتساب إليه، وكان يعدّهم جميعاً شيوعيين مهما اختلفت وجهات نظرهم، لأن من طبيعته احترام الرأي الآخر فكيف إذا كان هذا رأي رفيق سابق.

 كان الذين يتعرفون عليه مجدداً يستغربون كيف أن رجلاً وديعاً هادئاً منخفض الصوت محباً متقبلاً للرأي الآخر، وفي الوقت نفسه هو مناضل قديم صادق صدوق صابر صبور، لعلها مفارقة نحتاجها جميعاً.

العدد 1105 - 01/5/2024