الطبقة الوسطى… حاملة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي

تشكل النظام الإقطاعي من فلاحين أقنان وإقطاعيين أرستقطرايين. وقد اتصف هذا النظام بـ:

1 هيمنة الكنيسة وقيمها، وتدخلها في هكيلية الدولة وفي حياة الناس، وفرضها الضرائب وإصرارها على تتويج الملوك والحكام، ما سبب استياء عاماً وشاملاً مهد مع غيره لسقوط النظام الإقطاعي.

2 إهمال كلي لحقوق الإنسان فالفلاحون والأقنان دون حقوق، وبضمنها حق المواطنة، ذلك أن قسماً كبيراً منهم محرومون منه. أما المرأة فكانت محرومة من كامل حقوقها.

3 انعدام العدالة والمساواة في نظام غير ديمقراطي.

وقد استغرقت عملية تفسخ الإقطاعية وتوضع علاقات إنتاجية جديدة في أوربا هي العلاقات الرأسمالية فترة طويلة، بدأت منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. وقد بدأت تحل علاقات رأسمالية في هذا القرن. وكان العامل الرئيسي والحاسم في تفسخ الإقطاعية هو نمو القوى المنتجة في طيات المجتمع الإقطاعي، أدت إلى تغييرات أساسية في بنية الإنتاج الاجتماعي وطابعه، وتطور التقسيم الاجتماعي للعمل.

لم تكن الإقطاعية وقانونيتها تقتصر على مرحلة مرت قديماً في تاريخ المجتمع الإنساني، بل لها أهمية نظرية وثورية علمية مباشرة، إذ إنها تميزت بخصائص نوعية تظهرها كأسلوب إنتاج تناقضي حاد.

كان التناقض الرئيسي في المجتمع الإقطاعي هو التناقض بين طبقة الإقطاعيين وطبقة الفلاحين والأقنان.

 وقد جرى نضال الفلاحين المستثمَرين ضد الإقطاعيين على امتداد زمن الإقطاعية وبلغ ذروته في مرحلة نهايتها.

كان استثمار الفلاحين في عهد الإقطاع قاسياً جداً ووضع الفلاحين التابعين للإقطاعية، بائساً، كما كان وضع الأقنان كلهم في العالم القديم.

وبين أضخم الثورات الفلاحية في العالم ثورة الفلاحين الإنكليز والفرنسيين في القرن الرابع عشر، وفي ألمانيا في القرن السادس عشر، وفي روسيا في السابع عشر، وفي الصين في القرن التاسع عشر.

وقد زعزعت هذه الثورات الفلاحية أركان الإقطاعية وسرّعت أزمتها، وقد جرى الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية من خلال إقامة الدولة  الأمة. وتوسع السوق وتوحيده، إذ استخدمت البرجوازية نضال الفلاحين ضد الإقطاعيين من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية. رغم أن طبقة الفلاحين كانت هي القوة الثورية في الثورات البرجوازية. إلا أن نتائج النضال الثوري وحصيلته قطفته البرجوازية.. بسبب: أن ثورات الفلاحين كانت تحمل في ذاتها طابع العفوية والفوضى. وكان صغار الملاكين طبقة مبعثرة وليس لها برنامج وتنظيم موحد قوي. ولم يكن بالإمكان لنضال الفلاحين ضد الإقطاعيين أن ينتصر إلا إذا توحد مع الحركة العمالية التي كانت في مرحلة ثورات الفلاحين ما تزال ضعيفة القوى  ضئيلة العدد وفي بداية نشوئها، عاجزة عن قيادة نضال الجماهير الفلاحية. وهكذا قضت الثورات البرجوازية على النظام الإقطاعي.

ومع استمرار انهيار النظام الإقطاعي بدأت فئات اقتصادية اجتماعية جديدة بالظهور هي (البرجوازية الصغيرة).

وقد مرّ تطور البرجوازية الصغيرة في البلدان العربية، التي تكونت من صغار التجار ومعلمي الحرف ومن الفلاحين والفئات الميسورة وكان منها الأنتلجنسيا (الكتاب والصحفيون والمثقفون والمهندسون والفقهاء وغيرهم). مرّ بمرحلتين: صعود البرجوازية الصغيرة، وملامح برجوازية متوسطة، وقد امتدت مرحلة الصعود في العقود الأولى من القرن العشرين 1930  1955 حتى أوائل الستينيات.

في هذه المرحلة  ازداد عدد سكان المدن ونشأ نظام إداري جديد. تراجع دور الكنيسة – بدأ نمو النظام الديمقراطي – بدأ الاعتراف بحقوق الإنسان وخاصة حرية العمل – حرية المرور – بدأ قيام الدولة الأمة.

وقد ارتفع المستوى الاقتصادي للفقراء باتساع الصناعة والنشاطات الاقتصادية وتطور الحرف اليدوية إلى صناعة  حققت الاستقرار السياسي، فُرضت نظم وقوانين وتقاليد للحياة السياسية من خلال الديمقراطية والمساواة، الانتخاب، سيادة القانون.

رافق ذلك استقرار اجتماعي وتوازن بين الطبقات..

فقد ساهمت هذه البرجوازية في بناء مجتمع متوازن في مختلف مجالات الحياة طامح للتنمية والتقدم ولتنوع مصادره الاقتصادية.

واستمر نمو البرجوازية الصغيرة الحرفية وتطورها إلى برجوازية متوسطة شكلت الطبقة الوسطى، كما شكلت دولتها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وقيمياً.

 

الطبقة الوسطى في البلدان العربية

تألفت الطبقة الوسطى في البلدان العربية  من عدة شرائح  متحالفة: البرجوازية الإقطاعية، مالكي الأراضي.

البرجوازية الصناعية المرتبطة بالصناعة الوطنية والإنتاج المحلي، وكذلك من يمثلها فكرياً من المثقفين.

وهي برجوازية ذات نزعات معادية للإقطاعية، ومن أنصار تفتيت الملكية الإقطاعية المتبقية، وإدخال الرأسمالية في الزراعة.

وهي التي تولت مسؤوليات بناء دولة ما بعد الاستقلال وتأسيس هيكلية هذه الدولة، وسعت جادة إلى تعزيز الديمقراطية.

وقد بدأ دورها الحقيقي في البلدان العربية في القرن العشرين.

ففي مصر أوائل عام 1919 (ثورة سعد زغلول) لعبت الطبقة الوسطى دوراً أساسياً في التحول الديمقراطي، وذلك بتحديث الدولة، وساهمت ببدايات قيام الأحزاب، وبدايات تحرر المرأة، وبدايات الأنظمة الديمقراطية. والانتخابات والمجالس النيابية، وفصل السلطات، وكان دورها هاماً جداً في المجتمعات النامية لأنها حاملة النهضة الحضارية، والسياسية والتطور الاجتماعي والثقافي بمختلف أشكاله.

وفي بداية النصف الثاني من القرن العشرين لعبت الطبقة الوسطى دوراً هاماً في العراق وسورية مما أدى إلى التطور الديمقراطي في هذين البلدين. وقد تدهور وضعها في البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين وأجهضت الانقلابات العسكرية دورها وتحول فئات كبيرة منها إلى برجوازية بيروقراطية وطفيلية.

يقول أرسطو: أفضل الدول هي التي تحكمها الطبقة الوسطى.

وسورية في ظل حكم الطبقة الوسطى، أو كما يسميها السوريون البرجوازية الوطنية، في أواسط القرن العشرين قبل الاستقلال وبعده، حقق الشعب السوري الكثير من المكاسب: فقد أصبح التعليم مجانياً، والمشافي مجانية. دخول العرب إلى سورية دون تأشيرات، وتأمين العمل للقادرين عليه، تأمين السكن، كل هذا حققته الطبقة الوسطى التي حملت معايير الدولة الحديثة: أحزاب، دساتير، سيادة القانون. وضع مبادئ لتحرير المرأة. إلخ.. وقد لعبت هذه الطبقة دوراً بارزاً في حركة النضال الوطني والجماهيري والنهضوي في المجتمعات التي ساد فيها حكمها.

 

المشروع النهضوي العربي

غير أن المشروع النهضوي العربي وما حمله من مفاهيم العقلانية والليبرالية العلمانية والمواطنة وسائر أفكار التنوير لم يستطع أن يحدث تأثيراً في عمق المجتمعات العربية التي بقيت محاصرة بالجهل والخرافة وسائر المفاهيم والعادات ما قبل الرأسمالية.

ومن المعروف تاريخياً في العالم أن قوى اجتماعية رائدة ممثلة في النظام الرأسمالي ومناهضة للإقطاع كانت وراء الإبداع في عصر النهضة الأوربية، وأن إبداع الحضارة الإنسانية تم على أيدي القوى المنتجة بسواعدها وأدمغتها، واحتلت الطبقة الوسطى مكان الصدارة في عملية الإبداع.

ويلاحظ الآن تقلص فاعلية هذه الطبقة في معظم المجتمعات العربية ومنها سورية، وتراجعها كماً وكيفاً لصالح فئات غير منتجة فاحشة الغنى من جهة، وشرائح بيروقراطية وطفيلية من جهة أخرى. لأن الشروط المادية والمعنوية غير متوفرة لقوى الإنتاج الراغبة في التطوير والتحديث والإبداع ورفع مستويات الوعي الاجتماعي والطبقي والوطني.

إن بداية تكوّن بنية الطبقة العاملة السورية وترسّخها في خمسينيات القرن الماضي ذلك أنها كانت تعيش في جو مريح من الديمقراطية التي كانت سائرة في طريق الانتقال من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني والدولة الحديثة ذات الأبعاد النهضوية المتمثلة في حق المواطنة للجميع، حرية الإنسان في التعبير عن رأيه، وانتماء الفرد إلى الوطن والأمة وليس إلى عشيرة أو طائفة أو عائلة.

وقد أخذت العقلانية تشق طريقاً واضحة المعالم والديمقراطية لمواكبة الحضارة الإنسانية.

وفي مرحلة الخمسينيات 1953  1958 مرحلة المجلس النيابي السوري الذي جرى انتخابه بحرية وتشكل من قوى سياسية واجتماعية متنوعة، وكان معظم أعضائه من ممثلي الطبقة الوسطى، هذا التغيير وضع البلاد في مرحلة نهضوية جديدة. وقد اعتبرت هذه المرحلة مرحلة ازدهار الديمقراطية والحرية وظهور معالم المجتمع المدني وحرية الأحزاب والنقابات، واختفت نسبياً الولاءات العشائرية والطائفية وحل محلها الولاء للوطن.

إن تقلص دائرة الطبقة الوسطى باتجاه فئات منها نحو الأعلى، وهذا الصعود لم يتحقق في طريق البرجوازية الصناعية بل في توسّع الشرائح الطفيلية والبيروقراطية غير المنتجة والأغنياء الجدد.

ثم هبوط فئات منها ليس في طريق التحول إلى فئة منتجة في الريف والمدينة بل تصب في تيار الجموع غير المنتجة والكادحة والفقيرة تبحث عن حلول فردية لحل مشاكلها.

مما ساعد على اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، 

وانتشار نمط الاستهلاك، وطغى النشاط التجاري على النشاط الصناعي في معظم المجتمعات العربية ومنها سورية، مما أدى إلى تراكم غير إنتاجي في جيوب الطفيلية والبيرقراطية، وبالتالي جرى تدمير الطبقة الوسطى العربية، ولم توجد طبقة أو فئة تؤدي مهماتها ومسؤولياتها.

ولكن يبقى داخل المجتمعات العربية قوى اجتماعية تختزن إمكانات كبيرة للسير باتجاه التقدم الاجتماعي وخلق مناخ مناسب لنهوض وطني يحترم العقلانية والعمل المنتج والديمقراطية.

العدد 1104 - 24/4/2024